ما كنت أظن أني سأعود للكتابة عن النزاع الخفي والمناقشات المستترة عن المذاهب الفكرية؛ وأقصد هنا (الصوفية والسلفية)، لولا أن رائحتها فاحت من جديد، ووجدت المنقذ لي من هذا الجدل العقيم قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي قبل 19 سنة، بشأن المذاهب العقدية والفقهية والتربوية، الذي تضمن «أنّ كلّ من يتبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السُنة والجماعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، هو مسلم، ولا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وعرضه وماله ـ وفي نفس الفقرة ـ لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوّف الحقيقي، وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح ـ كذا ـ لا يجوز تكفير أي فئة من المسلمين تؤمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأركان الإيمان، وأركان الإسلام، ولا تنكر معلومًا من الدين بالضرورة».

دائما أتوقف عند كلمة (الحقيقي) وإلحاقها بالتصوف، وكلمة (الصحيح) وإلحاقها بالسلفية، وأحمد الله على هذين الاستدراكين، لأنه بهما يتأكد وجود صوفية غير حقيقية متمثلة في الضلالات والشعوذات والطقوس المختلفة، وسلفية غير صحيحة متمثلة في التشدد والتعصب والغلظة والتنفير، وللأسف لا يزال البعض، وفي هذا الزمن، يصر على التأكيد على أن السلفية والصوفية ضدان متعارضان متنازعان لا يلتقيان إلا في الانتساب للإسلام، والمؤلم أن غالبية المنتسبين للمنهج الصوفي يرون السلفية ضدًا، وغالبية المنتسبين للمنهج السلفي يرون أن الصوفية ضد، وتولد انطباع بأن السلفية والصوفية منهجان متعارضان متناحران لا يلتقيان، وصار كل صاحب نفوذ يحاول إيقاع الآخر تحت طائلتي التحريم والتجريم، والتوريط السياسي.

شخصيًا أتمنى على هذا الصاحب أن يحاسب من كان بعيدًا عن «الحقيقي»، و«الصحيح»، وأن يأخذ الناس نحو الاعتناء بالتمسك بالكتاب والسنة، وبالنصوص، والابتعاد عن الشبهات، ولا يُغفل الاعتناء بالجانب الروحي للدين، كالخشوع، وصفاء السريرة، والصلة بالخالق، والروحانية، والحضور، والرقة، والتذلل لله، ومداومة ذكره، والصلاة والسلام على نبيه.


ما قدمته لا يعني عدم نقد أي طرف، والمهم أن يكون النقد هادفًا، يراد به «تعزيز المواطنة ووحدة الصف واجتماع الكلمة ونبذ التفرق والاختلاف لتحقيق الاستقرار في المجتمعات الإسلامية» كما جاء في توصيات مؤتمر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الذي نظمته بمكة المكرمة في غرة هذا الشهر، برعاية سيدي خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله ورعاه؛ وهنا أتذكر من النقد البناء قول سيدي ولي العهد، وهو يتحدث عن الجماعات المتطرفة الإرهابية، قال سدده ربي وأيده: «الشيخ محمد بن عبدالوهاب، هو كسائر الدعاة وليس رسولًا.. الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليس السعودية»، وعلى مذهب سيدي أقول إن الرفاعي والجيلاني والبدوي والدسوقي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ليسوا أنبياء، ولا يضيرني أبدا أن أقول إن أجدادي الأربعة عبدالله وعمر ومحمد وحسن فدعق، الذين تسلسلت فيهم الإمامة بالمسجد الحرام منذ عام 1230، يؤخذ منهم كما يؤخذ من غيرهم، ويرد عليهم كما يرد على غيرهم، وأن الحق لا يعرف بالسلفي والصوفي، وإنما يعرفون جميعًا بالحق، وكما قال سيد البشر، عليه الصلاة والسلام، للأنصاري والمهاجري الذين نادوا جماعاتهم، أقول للمستمرين في التصنيف والإقصاء والوصاية: «دعوها فإنها منتنة»، وأستحلفهم بالله أن نكون في مستوى تطلعات والدنا الملك سلمان الذي قال لنا في كلمته المشهودة: «كل مُواطن في بلادنا، وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، وأتطلع إلى إسهام الجميع في خدمة الوطن».