على لوحة يومياته، يختار يحيى محمود أن ينبه الناس إلى اقتراب عيد ميلاده، الشاب العشريني الذي اعتاد أن يلوح بيديه للحياة والأمل وهو يصرخ: كيف حالك يا وطن، تذكر بأن عامًا يوشك أن ينقضي وصوت الحرب ورائحتها لا تزال تملأ أرجاء المكان، ابن شمال غزة الذي لا يشبه المحاربين، وجد نفسه أمام ما يزيد على 400 ألف متابع، يهبونه السمع والبصر، ولكنهم في الغالب لا يمكلون أن يهبونه شروط الحياة، في بلد فقد الكثير منها طيلة عقود، وخسر ما بقي خلال 10 أشهر هي عمر الحرب الظالمة على الشعب الأعزل.

هنا شمال غزة، يقولها في كل مرة يأتي بخبر سعيد أو حزين، والسعادة هنا باتت مقرونة بامتلاك ما كان يحسبه «ماسلو» في الطرف الأسفل من هرم الاحتياجات الإنسانية، الاحتياجات التي يتوقف عليها بقاء الإنسان على هذا الكوكب، ما يشبه الحد الأدنى لأن يكون الحي حيًا، هنا يأخذنا يحيى إلى أول لحظة عرف فيها الناس الخبز بعد الحصار، إلى جرعة ماء نظيفة نادرة تمكن الصغار من الوصول إليها، يأخذنا إلى غيمة فرح سرعان ما تزول في غابة الموت الكبيرة، في شوارع يهرب فيها الناس من الموت إلى الموت.

يطبطب المتابعون على كتف يحيى في كل يوم، هذا القدر من التعاطف الذي تسمح به تجاعيد الوقت القاسي، يحتضن الحياة بعينيه اللامعتين، وهو يفترش الأمل ويتلحف الأمنيات، وكل زاده في الحياة نافذة يطل من خلالها على الشمس، فظلام الحرب أحال الوجود إلى جداول ضرب يومية، إذ يصحو الناس على قائمة من الضحايا التي تغفو دون أن تدعك عينيها في وجه شمس اليوم التالي.


يحلم يحيى في عيد ميلاده المجيد بسرير آمن، بسماء خالية من أزيز الطائرات، بزاوية درس تذكره بآخر أحلامه التي سرقتها الحرب، بوطن أخضر لا يشبه اليباب، وبعالم لا يدير ظهره للضحايا، ويسد آذانه عن سماع آهاتهم، يحلم بأن لا يبتلع النسيان هذه الناس المحاصرة، رغم كل هذا الضوء المتناثر الذي يجعل من مشهد الذبح حيًا وعلى الهواء، ويجعل من أحزان غزة حبلًا ممتدًا على شوارع كل الكرة الأرضية.

اليوم ابتسامة يحيى كفيلة بأن تومض في مشهد العذابات الطويلة، يجمع فيها ما تبقى من براءة الطفولة وشجاعة الرجال، يكمل بها أناقته في وجه كل المتاعب والمصاعب، وكمقاتل في جبهة الأمل يدرك بأنه حين يزور العالم عبر منصات التواصل يترك ظل يومياته على مزاجهم، يمشي بهم على جسر الجراحات التي لم تفارق الحزن يومًا، غير أنه يحرص على جعل حضوره بينهم تمارين على الأمل، حين يبلل نوافذهم بخبر سعيد صغير هنا أو هناك، سعيد بمقاييس المدينة المحاصرة، لا بمقاييس الناس التي تعبت أجفانها من المشاهدة خلف أجهزتها الذكية.

هو الآن يغادر عامًا باتجاه عام آخر، كبر خلاله خارج حساب الزمن التقليدي، ربما زيد في عمره عشر سنوات، فما خبره من مشاعر وشاهده من أحداث، وتعلمه من دروس في هذه الحياة، يعادل كثيرًا من سنوات المنتظرين بطمأنينة للصباحات الرتيبة، عام غرد فيه كثيرًا في سماء الناس، حاول مرارًا أن يخرجهم من صمتهم، وغيابهم، وأن يمد لهم يدًا تذكرهم بأن الأمل يتسع أكثر فأكثر كلما جمعنا أشواقنا حوله، وأحلنا عيوننا إلى نجمتين باسمتين في سماء الوجود.