العالِم الحكيم يحتاج في ما يحتاج إلى ملكات علمية خاصة لن يصل إليها إلا بالممارسة، وعدم الاستغناء عمن سبق، والتحليل الدقيق لواقعهم وواقعه، وكيف وظفوا أقوالهم، وكيف يمكن أن يوظف هو أقواله وأفعاله.

واقع الإنسان، له دور مهم وحاسم في أدائه لمهامه الدينية والدنيوية، ودعوات الرسل، عليهم الصلاة والسلام، معلوم أنها كانت لإصلاح الواقع، ومما يدل على ذلك نـزول القرآن منجمًا على مدى ثلاث وعشرين سنة، وتدرجه في الأحكام، وترتيبه على غير أسباب نـزوله، وهكذا السنة النبوية المطهرة، حيث كانت خير مثال على التكيف بحسب الأحوال المختلفة. فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يجيب السائلين وفق أحوالهم وما يصلح لها، وكان صحابته رضوان الله عليهم يسألونه: «أي المسلمين خير، وكان يجيبهم بأجوبة مختلفة باختلاف أحوالهم، فكان مما أجاب به: «خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده»، و«رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»، و«مؤمن في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره»، ولا أوضح في هذا الصدد من قول سيدنا سلمة بن صخر للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هلكت. فقال: «ما لك؟»، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. قال له: «هل تجد رقبة تعتقها؟»، قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»، قال: لا، قال: «هل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، فأتى صلى الله عليه وسلم، بعرق فيها تمر، وقال له: «خذ هذا فتصدق به». فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؛ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال له: «أطعمه أهلك»..

لا شك أبدًا في أن الجمود أو التقليد خطر عظيم وعلة فكرية، توقف مواكبة الشريعة للواقع المتغير المتجدد، وتجعل الفقه والفتاوى معزولة عن الواقع. يقول الإمام ابن حزم الأندلسي أحد أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، في باب «إبطال التقليد» في كتابه المشهور «الإحكام في أصول الأحكام»: «نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية؛ عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين، رجلًا واحدًا قلد عالمًا كان قبله، فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه ولن يجدوه والله أبدًا؛ لأنه لم يكن قط فيهم، فلهم متعلَّق على سبيل المسامحة، وإن لم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد، وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء، إلا من عصم الله تعالى منهم، والبدع محرمة وشر الأمور محدثاتها، وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت والعاملون بها والمتفقهون في القرآن الذين لا يقلدون أحدًا؛ هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة، وأنهم أهل الحق في كل عصر، والأكثرون عند الله تعالى بلا شك وإن قل عددهم، وبالله تعالى التوفيق»، وهو ما يؤكد بشكل قاطع عدم الحل إلا في التحرر من آفة الجمود وبدعة التقليد، وتحريك العقل من جديد لمواكبة حركة الحياة، زمانًا ومكانًا.