يكاد يُجمع الباحثون على أنَّ بلاد الأندلس كانت خالية قبل الفتح الإسلاميّ، فتمادت على ذلك بعد الفتح أيضاً؛ لا يُعنى أهلها بشيء من العلوم إلَّا بعلوم الشَّريعة وعلم اللّغة، إلى أن توطَّد الـملك فيها لبني أميَّة - بعد عهد أهلها بالفتنة - "فتحرَّك ذوو الـهِمم منهم لطلب العلوم، وتنبَّهوا لإشارة الـحقائق"، في ما يؤكّد صاعد الأندلسيّ. الأمر الذي أكّده المستشرقُ الإسبانيُّ الشهير آنخل جنثالث بالنثيا (1889 - 1949)، حين قال إنَّه: "لا تكاد توجد آثار لأيِّ لَونٍ من الـحياة الفكريَّة في الأندلس خلال السَّنوات الأولى التي أعقبت الفتح الإسلاميَّ؛ بل إنَّ الشَّعب الإسبانيَّ - الذي دخل في طاعة الـمُسلمين نتيجةً لهذا الفتح - لم يُخلِّف لنا آثاراً تدلُّ على حياته الفكريَّة طوال عصر الولاة".

والحال أنَّ مبادئ الفلسفة، على وجه الـخصوص، بدأت تتسرَّب إلى الأندلس بصورةٍ ضمنيَّة عن طريق العلوم التطبيقيّة، كالرياضيّات، والفلك، والكيمياء، والطبّ، التي كانت تجري في دوائر ضيّقة، وفي معزلٍ وسترٍ عن النَّاس؛ لأنَّ الفقهاء - وجمهرة الـمُسلمين - كانوا يُحرِّمون تعاطيها آنذاك. بالإضافة إلى اشتغال البعض بالـمذاهب العقديَّة والفكريَّة، كالمعتزلة، والباطنيَّة، على وجه الخصوص. وبحسب ليفي بروفنسال (1894 -1956)، فإنَّه من الصَّعب جدّاً أن نُحدّد الزَّمن الذي بدأ فيه المعتزلة يتسلَّلون تدريجيّاً بين أكثر عناصر الشَّعب الأندلسيّ ثقافة. ويعتقد، تبعاً لذلك، أنَّ ذلك الأمر لم يَحدث على أيَّة حال قَبل حُكم الأمير محمَّد الأوّل (238 - 273 هـ/ 852 - 886 م). مع الأخذ بعَيْن الاعتبار أنَّ تسمية المعتزلة كانت تُطلق آنذاك على ميدانٍ واسعٍ من الأفكار الفقهيَّة والفلسفيَّة التي تُعَدُّ مشبوهة، لعدم انضوائها داخل الإطار الأصوليّ الصَّارم للمذهب المالكيّ.

علاوة على ذلك، اقتصرت بواكير النَّهضة العلميّة وقتذاك على تحصيل العلوم النَّقلية، كعلوم الشَّريعة، إضافة إلى علوم الآلة، كاللّغة والبلاغة وغيرهما، ولم تشمل - في طبيعة الحال - علوم الحكمة، كالفلسفة والكلام والتَّصوُّف؛ ما أدَّى إلى الظُّهور التَّدريجيّ لآحاد طوائف: القرَّاء، والفقهاء، واللّغويّين والنُحاة، وغيرهم. لكن سرعان ما أَخذ الاهتمامُ بالعلوم العقليّة يتنامى بين أهل الأندلس، في أعقاب النَّهضة الأولى التي اهتمَّت بالعلوم النَّقليّة، بخاصَّة إبَّان عهد الأمير محمَّد الأوَّل، خامس أمراء الأندلس الذي كان مُحبّاً للعلماء، حامياً لهم. وقد رافَقَ ذلك، في طبيعة الحال، رحيل كثير من الأندلسيّين إلى بلاد المشرق - بوصفها مركزاً للعلوم والمعارف العقليّة والنَّقليّة - للنَّهل من مَعينها والعودة ببعض أصولها إلى بلادهم.


من ضمن هذا السياق، بَرَزَ في الأندلس بعض علماء الطبّ، والنُّجوم، والحساب، والفلك، والمنطق أيضاً؛ في مقدّمهم صاحب القِبْلَة، أبي عُبيدة البَلَنسيّ (ت. 295 ه/ 907 م)، الذي كان فلكيّاً دارِساً للجغرافيا، بَرع في الحساب، والهيئة والنُّجوم، إلى جانب الحديث والفقه. ومن اللّافت مهاجمة ابن عبد ربّه، صاحب "العقد الفريد" إيَّاه بذريعة أنَّه يَنسب الرزق إلى الكواكب، ويقول بكُرَويَّة الأرض! كما اهتمَّ بالحسابِ والجَدَلِ والمنطقِ أيضاً ابن السَّمينة؛ أبو بكر يحيى بن يحيى القرطبيّ (ت. 315 هـ/ 927 م)، الذي كان - على تبحُّره في النَّحو والعروض والأخبار والجدل - على معرفة أيضاً بالحساب والنُّجوم والطبّ. لكن على الرُّغم من ذلك؛ ظلّ الأندلسيّون على حالهم في ما يتعلَّق بالنَّظر بريبةٍ شديدة إلى مَن يشتغل بعلوم الأوائل، بخاصَّة الفلسفة، والجدل، والمنطق، فلا يتقبَّلون - إلى جانب علوم الشَّرع - إلَّا علوم الطبّ، والحساب، والفلك، وما يُماثلها. وتبعاً لذلك، لم تَحظَ علوم الفلسفة بأدنى اهتمامٍ يُذكر، بل وأُسيءَ الظنُّ بأهلها، ما دفعهم إلى الانزواء والاختفاء، على غرار ما فعلَ ابن مسرَّة الجبليّ (ت. 319 هـ/ 931 م) الذي انبرى - عقب عودته من المشرق - لتعليم مبادئ الحكمة، والكلام، والعرفان، عن طريق الكناية والرَّمز، واضطرَّ - أحياناً - إلى الرَّحيل عن الأوطان.

وربَّما لهذا السبب لم تَعرف تلك المرحلةُ المبكّرة نِتاجاً ذا طبيعة كلاميَّة، أو فلسفيَّة، في ظلّ السيادة الرسميّة المُطلقة للمذهب المالكيّ، فلم تَشهد الأندلس معتزلةً يعكّرون بمذهبهم الكلاميّ "سلامة الدّين"، ولو أنّ ذلك أَسهم في خلْقِ الشُّروط الطَّبيعيّة المُمهِّدة للمُمارَسة الفلسفيّة، كما تجلَّت - على الأخصّ - في تجربة ابن مسرَّة الجبليّ، الذي انتهى الأمر باستدعاء قاضي قرطبة محمَّد بن يَبْقى بن زَرْب (ت. 381 ه/ 991 م)، أتباعَ مدرسته سنة 350 ه/ 961 م وإجبارهم على إعلان التَّوبة من مذهبه! كما أَمر بإحراق كُتبه على مرأى منهم، وكتب كتاباً في الردّ عليه. وبعد ذلك بأقلّ من قرنَيْن، أَقدم قاضٍ قرطبيّ آخر، هو ابن حمدون (ت. 521 ه/ 1127 م)، على حَرْقِ كتاب "إحياء علوم الدّين" لأبي حامد الغزاليّ (ت. 505 ه/ 1111م) ولَعْنِه وصنَّف كتاباً أيضاً في الردّ عليه.

وكيفما كان الأمر، فقد تأسَّس التيَّارُ الفقهيُّ المالكيُّ - كمنظورٍ فكريّ - على المُقارَبةِ النَّصيَّة المباشرة لنصوص المرجعيّة الدينيّة، والوقوف عند الاشتغال بالرُّسوم الظَّاهريّة للشَريعة في العبادات والمُعاملات والعقائد، مع توخّي الحَذَر الشَّديد في شأن الأنماط الفكريّة المُغايرة، وأشكال التّأويل المُخالِفة، والاجتهاد الفكريّ الذي يُفضي إلى إخراج النُّصوص المرجعيَّة عن ظاهرها المُتعارَف عليه. فعلى الرُّغم من بوادر النَّهضة العلميّة التي بَدَتْ متواضعة إبَّان عهد الأمير محمَّد الأوَّل، فإنَّ الثقافة الأندلسيَّة، العلميّة والفلسفيّة، لم تَزدهر بشكلٍ نسبيّ، ولم تتَّسِع لاستيعابِ العلوم العقليّة إلَّا في منتصف القرن الرَّابع الهجريّ/ العاشر الميلاديّ، إبَّان عهد الخليفة الـحَكَم الثاني الـمستنصر (350 - 366 هـ/ 961 - 976 م)، الذي جَمَعَ من الكُتُبِ في بقيَّة أيَّام أبيه، ثمَّ في مدَّة مُلكه من بعده، ما كان يُضاهي ما جَمَعَهُ ملوكُ بني العبَّاس في الأزمان الطَّويلة، وتهيَّأ له ذلك لفرطِ محبَّتِهِ للعِلم، وبُعْد همَّتِهِ في اكتسابِ الفضائل، وسموِّ نَفسِهِ إلى التَّشبُّهِ بأهل الحِكمة من الملوك، فكثُر تحرُّك النَّاس في زمانه إلى قراءة كُتب الأوائل وتعلُّم مذاهبهم.

وبهذا يُمكننا حَصْر جهود الحَكم المُستنصِر في دعْمِ الحركة العلميّة إبَّان عصره في كلٍّ من: إنشاء مكتبة عامَّة تابعة لقصره، وحفْز الهِمم إلى التَّأليفِ عن طريق إغداق الهِبات والعطايا، وتكليف البعض للقيام بأعمال التَّرجمة، واستقدام العُلماء من الأقطارِ كافَّة إلى حاضرةِ قرطبة. وقد حاوَلَ المنصور بن عامر (ت. 392 ه/ 1002 م) تقليدَ الحَكم المُستنصِر، فاستقدَمَ صاعداً (ت. 417 ه/ 1026 م) من بغداد، لكنّه لم يستطع أن يمحو أثرَ أبي عليّ القالي، اللّغويّ الشَّهير صاحب الأمالي (ت. 356 ه/ 967 م)، ولا أن يُحقِّقَ مثل نتائجه. فقد أغراه الحَكم المُستنصِر لأنْ يَرحلَ من المشرق إلى بلاد الأندلس، أيَّام خلافة أبيه النَّاصر، وتلقَّاه بالتّرحاب الشَّديد، وبالَغَ في إكرامه. ولم يكتفِ الحكمُ بذلك، وإنَّما وَصَلَ العديدَ من عُلماء المشرق بعطاياه وصِلاتِه الرَّاتبة، فتحوَّلتِ الأندلسُ في عهده إلى سوقٍ كبيرٍ للكُتب، إذ بَعَثَ رُسُلَهُ إلى بلاد المشرق من أجل جلبها، والفوز بالإبرازة الأولى من أشهر الأعمال الأدبيّة، ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ (ت. 35 6 ه/ 966 م)، وشرح القاضي أبي بكر الأبهريّ (ت. 375 ه/ 985 م) على مختصر ابن عبد الحكم (ت. 257 ه/ 870 م).

نتيجةً لذلك، بَلَغَ فهرسُ مكتبةِ الحَكم في قرطبة أثناء تولّيه الخلافة: ألفَيْن ومئتَيْ صفحة. وبالإضافة إلى مكتبة قرطبة، كان هناك سبعون مكتبة عامّة، فضلاً عن المكتبات الخاصّة بدواوين الأمراء؛ بل كان في الرَّبض الشرقيّ من قرطبة مئة وسبعون امرأة يَكتبن المصاحف بالخطّ الكوفيّ. وكانت لبنى بنت عبد المولى، كاتبة الخليفة الحَكم، حاذقةً بالكتابة، نحويّةً، شاعرةً، بصيرةً بالحساب والرياضيّات، مشارِكةً في العِلم، عروضيّة، رائعةَ الخطّ. لم يكُن في قصور بني أميّة أنْبل منها. وكانت مسؤولة في مكتبة قرطبة عن الكتابة وترجمة العديد من المخطوطات، وإليها يرجع الفضل - مع حسداي بن شبروط - في إنشاء المكتبة الشهيرة في مدينة الزَّهراء. وكما لاحَظت ماريا فيغيرا، فإنَّه بتفحُّصِ كُتُبِ التَّراجِم، نَلحظ أنَّها تَرجمت لـ (116) امرأة أندلسيّة ما بين القرن الثاني الهجريّ/ الثّامن الميلاديّ والثّامن الهجريّ/ الرّابع عشر الميلاديّ، من بينهنّ اثنتان فقط صُنِّفتا على أنّهما عالِمتان، وثلاث وُصِفْنَ برعاية العِلم. أمَّا النساء اللّواتي أَسهمْنَ في نَظْمِ الشِّعر، فعددهنّ (44)، والأديبات (22)، والكاتبات (11)، والنسَّاخات (4)، وعدد (3) مصنّفات معاجم ونحويّتان، و(16) يقرأن القرآن ويَعرفن معانيه، و(6) كرَّسْنَ أنفسهنّ لعِلم الحديث، و(8) للزُّهد، و(6) يَعرفْنَ الفقه، و(4) يَعرفْنَ التاريخ والأخبار، وواحدة تَعرف الحساب، ومثلها تعرف عِلم الكلام، وثالثة تَعرف عِلم الفرائض...إلخ.

وإلى جانب ما سبق، خصَّص الحَكم جانباً من دار الملك سمَّاه بَيت الحكمة، لينقطع فيه العُلماء والأدباء للتَّأليف، أو التَّرجمة، أو مُقارَنة النُّسخ الوافدة من المَشرق. وهكذا شكَّل عهدُ عبد الرَّحمن الدَّاخل بدايةً مُشجِّعة للنُّهوض العلميّ، وكذلك عهد ابنه الأمير هشام الذي أولى اهتماماً كبيراً بمسائل التَّعليم في الأندلس. كما ارتفعتْ وتيرة الرّحلات العلميّة إلى بلاد المشرق؛ وليس أدلّ على ذلك من أنَّ كِتاب أخبار الفقهاء والمُحدِّثين لمحمّد بن حارث الخُشنيّ يتضمَّن ما مجموعه (527) ترجمة، يبلغ معدّل مَن لهم رحلات مشرقيّة من بينهم (259) ترجمة؛ أي بما يُعادِل النصف تقريباً. ولهذا أَشاد المقَّريّ التلمسانيّ صاحب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب بهمَّة أهل الأندلس في طَلَبِ العِلم قائلًا: "وأمَّا حال أهل الأندلس في فنون العلوم، فتحقيقُ الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنَّهم أحرص النَّاس على التَّمَيُّز، فالجاهلُ الذي لم يوفّقه اللَّه للعِلم يجهد أن يتميَّز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً عالّةً على النَّاس، والعالِم عندهم مُعظَّمٌ من الخاصَّة والعامَّة، يُشار إليه ويُحال عليه". كما نوَّه المستشرق الهولنديُّ رينهارت دوزي (1820 - 1883) بخلوّ المُجتمع الأندلسيّ من آفة الأميَّة، مؤكِّداً أنَّ "كلَّ فرد في الأندلس كان يَعرف القراءة والكتابة".

لكن للأسف الشديد، سرعان ما توقّفت النَّهضةُ الفكريّةُ التي استمرَّت أقلَّ من عقدَيْن من الزَّمان، بُعيد وفاة الحَكَم وتولّي ابنه هشام الخلافة، ما فَسَحَ المجالَ أمام حاجبه المنصور بن أبي عامر، للانفراد بالسُّلطة، فأَمَرَ بإخراجِ جميع الكُتب من خزائن الحَكَم، بحضور الفقهاء، وفَصْلِ كُتب اللّغة والنَّحو والشّعر والأخبار والطبّ والفقه والحديث، في ما أَحرق ما تبقَّى من كُتُبِ المنطق والنُّجوم، إرضاءً لعوام الأندلس واستئلافاً لقلوبهم، ولفقهاء المالكيَّة على وجه الخصوص.

وهكذا انتهى الأمر بأن "سال سيلُ الفتنة، ونحن طريقه، وغشي ليل المحنة، وفينا رفيقه، وانخسفت الأرض وفيها المسيء والبريء"، في ما يقول ابن العريف الصنهاجيّ، المتوفَّى إثر محنة في مرَّاكش سنة 536 ه/ 1141 م.

يبقى القول، إنَّه إلى جانب توفُّر هذَيْن العاملَيْن: تسرُّب الفلسفة من ضمن تضاعيف العلوم التَّطبيقية من جهة، وظهور نزعات الاعتزال والباطنيَّة من جهةٍ أخرى، علينا ألَّا نغفل الدَّور الذي لعبه التُّراثُ اللّاتينيّ الـمسيحيّ الـمحلّيّ في بلْورة ذلك الأمر، على الرُّغم من تشديد آسين بلاثيوس بأنَّ تاريخ الفكر الفلسفيّ في إسبانيا الإسلاميَّة ما هو إلَّا صورة مطابقة لِما كانت عليه الثقافة الإسلاميَّة الـمشرقيَّة، من دون أن تكون له بالتُّراث الـمحليّ صلةٌ حقيقيّة يقوم عليها بالدَّليل؛ وهو ما يؤيّده فيه بالنثيا أيضاً. أمَّا العامِلُ الحاسِمُ المُهمّ في ظهور تلك النهضة، فهو من دون شكّ رعاية الـخلفاء الأمويّين للعلوم والفنون والآداب والفلسفة. لذلك كان الحَكَم المُستنصر أكثر الخلفاء الأندلسيّين تسامحاً، وكان له في كلٍّ من القاهرة، والإسكندريّة، ودمشق، وبغداد، عمَّالٌ مُكلَّفون باستنساخ الكُتب. وكان نظَّاراً في الكُتب، كثير التَّعليق عليها، قلَّما تَجِد كتاباً في خزائنه إلَّا وفيه قراءته وتعليقاته عليه. وكثيراً ما كان يَكتب بخطّه - في أوَّله، أو في تضاعيفه، أو في آخره - نَسَبَ المؤلِّف، ومَولِدَه، ووفاتَه، وأنسابَ الرُّواة له؛ حتَّى صارَ كلُّ ما كَتبه حجَّةً لدى شيوخ أهل الأندلس.

*كاتب وباحث من مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.