أكثر ما أحبه في فترة الصيف والعطلات الرسمية هو صور الأصدقاء في وسائل التواصل الاجتماعي، بالأخص تلك التي تعتمد على الومضة السريعة، واللقطات العفوية، والمشاهد العابرة التي قد لا نتوقف عندها جميعا، أو اللحظات الخاصة التي حتما تشكل لدى ملتقط الصورة أو الفيديو قيمة خاصة تترك تخمينا ما خلفها.

في عشرة أيام هي مدة الإجازة الرسمية الأخيرة تنقلت -عبر صور الأصدقاء- بين دول عديدة، وزرت معالم مختلفة، وتعرفت على حضارات متنوعة؛ قد أكون زرت بعضها أو جميعها مسبقا لكنني رأيتها هذه المرة عبر أعينهم، وانعكس عليها إحساسهم. لقد كنت فعليا أجلس على شاطئ الخليج حيث درجة الحرارة تفوق الأربعين المئوية، بينا أشعر ببرد نسائم براغ وهي تحيط ابتسامة صديقتي التي تقف أمام أحد تماثيلها البرونزية في ميدان عام فسيح. ثوانٍ قليلة تفصلني عن الانتقال لمتحف صامت في برلين يحمل عبء التاريخ، لأتوقف بعدها في «جمالية القاهرة» واختلاط الأصوات والملامح وصخب الحياة. وبينما تنقل لنا صديقة تجربتها في الاستشفاء في أحد منتجعات التشيك الصحية؛ ألمس صوت صديقة أخرى مشتركة مملوء بالشفاء والامتنان بعد تجربتها الروحية في حج هذا العام.

المثير في الأمر أنني بعض الأوقات أعلم من خلال بعض الومضات المصورة أن هناك صديقين يسكنان في نفس اللحظة ذات المدينة السياحية، أحدهما يجلس في مقهى شهير وسط المدينة تم تصوير أحد الأفلام العالمية فيه، والآخر عبر في ذات الشارع في تلك اللحظة، لم تكن المدينة وحدها ولا الشوارع والمقاهي ولا رحلة الصيف التي جمعتهما وهما لا يعرفان بعض؛ بل معرفتي بهما!


تروق لي خلال هذا الاستكشاف الصيفي العفوي ما أرصده من مشتركات وتناقضات متقاطعة بين بعض المدن التي زارها أصدقائي وبين مشاعرهم خلف الصورة؛ فبينما «يهوبل» أحدهم لنياقه على أطراف صحراء الربع الخالي متكئا على الشمس، تصرخ أخرى من مخلوق زاحف غريب ظهر لها فجأة على شاطئ بالي والرطوبة والرعب يحفان صوتها. وبينما تجرب إحداهن ملابس «الهانبوك» الكورية الشعبية وتشيد بلطف السيدة التي التقطت لها الصورة، يتذمر آخر من تحوّل قرية وادعة شمال تركيا لمعرض أزياء خليجي وينتقد غلظة الناس هناك. وبينما تجلس صديقة ما مع أفراد أسرتها على مقاعد فاخرة، أمامهم أدوات مائدة ملكية بالقرب من بحيرة ليمان في جنيف والصمت والضيق يعلوان ملامحهما، تتعالى أصوات البهجة في «مكشات» لصديق آخر مع عائلته في «حوش» جدهم القديم في إحدى قرى السودة.

في تصوير رحلات السفر تظهر عدة أصناف من الناس - في قائمة أصدقائي على الأقل - فهناك من يصور خلال الساعة الواحدة عشرين صورة، يلتقط كل شيء، يثرثر عن كل شيء، يعلق على كل شيء ناقدا أو مادحا، فيصبح حسابه عبارة عن مئات الصور اليومية التي تصيب قليلي الصبر بالملل من شدة كثافتها. الملل أيضا قد يصيب من يتابع أولئك الذين يظهرون بمظهر السائح الغامض، المسافر إلى وجهة لا يعلمها الآخرون ويتعمد من خلال صورة واحدة كل يومين أن يلتقط زاوية غامضة في ركن مظلم ليثير فضول الفضوليين. الأفضل بين هاتين الحالتين من يمر يومه وحسابه لا يخلو من دهشة المعلومة، أو جمال اللحظة، أو متعة الفضاء الذي يتواجد فيه، والأجمل على الإطلاق من يجعل من تجربته دافعا قادما لي لزيارة تلك المدينة للوقوف في المكان تفسه ، والتقاط اللحظات ذاتها، والبحث عمن يستحق أن يعيش تجربتها معي.

هناك قصص صيفية مصورة على حسابات بعض الأصدقاء تشعر فيها أنك فرد من عائلتهم، تستيقظ معهم صباحا، تختار معهم «الأوتفت» لذلك اليوم وتشارك في تخطيط مساره، تقلق على فرد خاص بينهم، تتنقل برفقة أحاديثهم ومواقفهم من مكان لآخر، وتنتظر نهاية يومهم الجميل ليكتمل شعورك بالانتماء الخفيّ لهم. وهناك من تشعر معهم بالاغتراب والوحدة مهما تنوعت لقطاتهم، وتعددت جولاتهم، وتنقلوا من مكان لآخر، وكأن رحلتهم مصممة بشكل آلي لا يد فيها للشعور الإنساني المحب والألفة. بينما هناك نوع آخر يسافر ويعود دون أن يشعر به أحد، يتخفى حتى عن ذاته، ويمتنع عن متعة المشاركة، إلا إن كنت أحد غير المحجوبين عن مشاهدة حسابه!

في الصيف، تمر أيام العطلات في هذا الوقت مليئة بالذكريات والمواقف، بالمدن والمحطات والتجارب، بالمشاعر والأحاسيس الندية، ليست التي نعيشها حقا وسافرنا لها فعليا أو قضينا وقتنا الراكض بصخب لاغتنام أيام الراحة القليلة، بل التي نتشاركها مع الآخرين بحب، ونشعر بها بامتنان، ونعلق في ذاكرتها بمهارة. إنه مجد الصورة حينما تجتمع مع تلقائية اللحظة الإنسانية، عن الوجه الآخر لوسائل التواصل الاجتماعي أحدثكم.