الأمر ليس صعباً في تفكيك صراع الكم والكيف، لأن (الحياة لا تتقرر بناء على الوعي، بل الوعي يتقرر بناء على الحياة) فالوجود سابق على الفكر، ولن نسترجع سيرة آباء الرئيس الأفروأمريكان السيد باراك أوباما فيما لو قرروا الهجرة للعالم العربي أو الهجرة إلى أمريكا، لنكتشف ضيق الممكن اليومي المنعكس على ضيق (الإمكان) المستقبلي في حياة باراك داخل العالم العربي، أمام اتساع الممكن اليومي المنعكس على اتساع (الإمكان) المستقبلي في حياة باراك أوباما ليصبح من أهم ساسة التاريخ الأمريكي الحديث والحاصلين على جائزة نوبل.
(من لا يستطيع تغيير جغرافيته لا يستطيع تغيير تاريخه) نرى هذه المسألة في أعلى تجلياتها متمثلة في التاريخ التجاري للحضارم ما بين عدن قديماً وبين بعض مدن العالم حالياً فيما لو قرر الحضارم أن يربطوا (وعيهم التجاري) بالمكان/عدن، وأن هذا الوعي التجاري المرتبط بالمكان/عدن سيكفيهم لمقاومة (تغيرات الواقع العالمي) فيتوهموا ثبات خريطة الجغرافيا التجارية ثبات مدينة عدن كميناء تجاري، وهذا ما لم يحصل رغم قِدَم عدن في التجارة منذ مئات السنين، فالثابت في (كل شيء) هو التغير، ليتحول البعد الرابع (الزمن) إلى مفاجأة نرى فيها عدن غائبة عن جغرافيا خط التجارة العالمي(حتى الآن) مع بقاء الحضارم سادة من أسياد التجارة العرب حول العالم، فالسر إذاً ليس في عدن/الجغرافيا، بل في البشر/التاريخ، يكفي مثلاً أعلى للصمود التجاري حول العالم في عائلة آل روتشيلد منذ مؤسسها ماير روتشيلد (1744/1812) وحتى الآن.
صراع الكم والكيف يستبطن صراع الطبقات وصراع الأيديولوجيا الناتجة عن ذلك، فهناك تراكم كمي لا ينتج عنه أي تغير نوعي (تراكم أعمى جامد فاقد للوعي)، ولهذا التقى بضعة آلاف من الانجليز بمئات الملايين في الهند فاستعمرت الأقلية البريطانية الأكثرية الهندية لقرابة القرنين ببداية بريئة (شركة الهند الشرقية البريطانية)، لم تتحرر الهند إلا بعد التحول النوعي لتراكم كمي للطبقة الوسطى الهندية (الواعية/الحرة) المتشكلة في المستعمرة البريطانية، كانت البداية دائماً في (تعاقدات تجارية واستثمارية) تحولت إلى هيمنة (هل هذه القراءة لبدايات تاريخ الاستعمار البريطاني اللابس لقفاز التجارة والاستثمار وتحته يد من حديد الاسطول البريطاني، يعيد إلى أذهاننا الأسلوب القديم الجديد للصين الحديثة المهتمة حالياً بالعقود الاستثمارية والتبادل التجاري فقط في دول أفريقيا وغيرها!!).
هل يمكن إيقاف (عجلة التاريخ)؟!، هل هذا ممكن كما يتوهم البعض عبر (الذكاء الصناعي المعولم في وسائل التواصل/فيسبوك، تويتر، تيك توك... إلخ) وفوائده الإمبريالية التي تجاوز نظرية (المراقبة والمعاقبة لميشيل فوكو) في نطاقها الضيق، لتصبح مراقبة ومعاقبة بحجم العولمة، ولهذا فوجه الحرب الباردة القادم سيكون (صراع مراقبة ومعاقبة) متبادل بين مناطق النفوذ الجيوسياسي للقوى العظمى المتعددة لكن بمستوى دول وليس أفراد، لنشاهد مثلاً نظرية المراقبة والمعاقبة وقد تشكلت على شكل طبقات عليا ودنيا فنرى دولة دنيا تقمع شعبها وفق أعلى نماذج (المراقبة والمعاقبة الفوكوية) فتأتي نفس النظرية متمثلة في قانون قيصر متمثلة في دولة عليا عظمى تقمع نظام سياسي لدولة أخرى، فترد قوة عظمى أخرى بإنقاذ النظام (المقموع دولياً والقامع شعبياً)!؟!!، فهل هذا يكفي لمقاومة (مكر التاريخ/هيغل) كما شاهدنا مثلاً خيبة المعارضة العراقية من اتفاقية (خيمة صفوان/1991) ليأتي مكر التاريخ بعد سنوات على ما تبقى من كبرياء البعث العراقي، في عملية عسكرية (2003) احتلت العاصمة في قرابة ستة أسابيع فقط، فكم يحتاج (مكر التاريخ) من سنوات بعد قانون قيصر لإطلاق رصاصة الرحمة/الموت الرحيم على بقايا تركة ميشيل عفلق والبيطار التي عجزت عن تجديد نفسها بروح العصر ما بعد (الأممي الشمولي) فتصلبت مفاصلها أكثر ونهشتها الغرغرينا أكثر وأكثر.
الغرب وهو يفتح أبوابه للمهاجرين العرب نتفاجأ به وفق تشريح (سلافوي جيجيك) لحالة المهاجرين السوريين وانفتاح ألمانيا على ذلك أيام (ميركل) بأن (فلتر الإقامة والجنسية) ليس إلا امتصاص لنخبة الكفاءات العلمية والعملية في جميع المجالات، بما يشبه تجديد دماء أوروبا العجوز بدماء شابة ماهرة تنضاف لقوتها الاقتصادية، ويبقى الرجيع الذي نرى هوجته العشواء وانسداد الأفق به داخل أوروبا وقد تم إعادته إلى العالم العربي (ولو بعد حين) أو تهجيره إلى بلد ما كما قررت بريطانيا مثلاً، وهنا لا جديد تحت الشمس في (هجرة العقل المنفتح) ولا أستطيع أن أقول (هجرة العقول العربية) فالعقول العربية بشكلها التقليدي لن تكون سوى (يد عاملة تنافس في رخصها مخالفي نظام الإقامة في أوروبا، أو مخالفي الإقامة في أمريكا الشمالية القادمين من المكسيك) أو تضج بهم شوارع البطالة في بلدانهم كوقود سائل ينتظر (عود ثقاب).
صراع الكم والكيف عرَّى السياسات الاستثمارية للشركات الكبرى مثل نوكيا التي عاشت الحوكمة وفق مؤشرات (الكم) غافلة عن قشة (الكيف) التي قصمت ظهرها محمولة بيد ستيف جوبز، فهل هذا (الكم) في مؤشرات شركة نوكيا يتقاطع مع بعض الدول التي غفلت عن (الكيف) لتتفاجأ بما سمي الربيع العربي!؟ لا أعلم... ربما!.