أعود إلى تعاطفي مع طويل البال الدكتور توفيق السيف في (تفهيم) بعض القراء أبجديات (التفكير المنطقي) بمعناه القديم، وأقول القديم، لأن معظم إطروحاته يمكن الإمساك بثيمتها في أنه يريد نقل (عقل القارئ) من القرون الوسطى العربية والأوروبية المحبوسة في (أورغانون) منطق أرسطو «384 ق.م»، ليدخلهم عصر النهضة الأوروبية مع كوبرنيكوس خصوصًا عصر فرانسيس بيكون (1620م) في (الأورغانون الجديد) باعتباره (منطقا علميا جديدا للوصول إلى العلم الصحيح) والتخلص من الأصنام العقلية في العصور الماضية التي أوضحها بيكون: (أصنام القبيلة، أصنام الكهف، أصنام السوق، أصنام المسرح). ومما يسبب الإحباط للقارئ العارف بالجهد الذي يبذله السيف في الإفهام وزيادة الوعي، أن هناك شبابًا من الكتَّاب وإعلاميي وسائل التواصل من الجيل الجديد يتعرفون على معظم رموز النهضة الأوروبية في معظم المجالات ثم يقومون بابتسار يعيد عقل المتلقي للمربع الأول (التفكير القديم) للقرون الوسطى العربية. فإما أن يزعموا ممارسة النقد الفكري لرواد النهضة الأوربية، بينما يمارسون في الحقيقة الانتقاد العقائدي الذي لا علاقة له بالفكر، بل هو إعادة إنتاج حديثة لمظاهر الانتقاد العقائدي التي تطبعوا عليها من نقد ابن تيمية للفلسفة عمومًا وفلاسفة الإسلام خصوصا، وإما أن يختزلوا أفكار عصر النهضة التي تحتاج إلى جهد فكري في وصولها إلى عقل القارئ، فيستبدلوا هذا الجهد في مقاربات تبجيلية في (نحن مرجع الحضارة الإنسانية)، كأن يزعموا أسبقية الغزالي لديكارت في الشك، وأسبقيته لديفيد هيوم في مسألة السببية. وهذا خلط للمفاهيم وابتسار لها ويشبه في سذاجته أسبقية إمرؤ القيس لنيوتن في الجاذبية عندما قال: (كجلمود صخر حطه السيل من علِ)! ويجد هؤلاء الشباب بين كبار الأكاديميين من يلوي لسانه وفق هذا النسق (الشعبوي/العلموي) الذي يطربهم!؟.

ولأن القراء معظمهم قراء عاديون وليسوا قراء مُدَربين وفق مفهوم علي الشدوي في كتابه (مدار الحكاية/ فرضيات القارئ ومسلماته) إذ يقول ص10: (بالرغم من أن القارئ العادي وكذلك القارئ المدرب قد يشتركان في المعرفة فإن معنى تلك المعرفة سيكون مختلفًا عندهما، والقراءة هي العملية التي يسعى من خلالها القارئ إلى أن يغير معنى ما يعرفه، بهذا يمكن أن تكون القراءة عملية بناء وتكوين للمعنى... ). وعليه فكل المفكرين منذ ظهور مصطلح «مفكر» ليسوا سوى أفراد استطاعوا قراءة إمكان (معنى جديد) في كل نص يقرؤونه من أي نوع شعري، وحتى علمي، وهذا ما وجدته أخيراً في علم الابستمولوجيا الذي جعلني أزداد تعاطفًا مع الدكتور الجليل توفيق السيف خصوصًا عندما يحاول مثلًا في بعض أطروحاته فك الارتباط (المتوهم) بين العلم والدين، دون أن يجرح كبرياء المتلقي (كبرياء وليس إيمان) لأن ارتباط العلم بالدين مفسد لكليهما. ويكفي المهتم الحقيقي أن يقرأ كتاب (تكوين العقل العلمي) لباشلار أو كتابًا أيسر وأسهل مثل (مدخل إلى فلسفة العلوم) لمحمد عابد الجابري ليكتشف أن لا علاقة بين (الإيمان الديني/ الحب الإلهي)، وبين أي منطق علمي جديد تجاوز حتى أورجانون فرانسيس بيكون ليصل إلى نظام الزمر الرياضية الذي ينشأ مع الطفل منذ ولادته، ما جعل الجابري يقول ص154 من الكتاب المشار إليه: (وإذن فليست هناك أفكار فطرية، كما كان يقول ديكارت وأتباعه، وليس العقل صفحة بيضاء تكتب عليها الحواس انطباعاتها، كما كان يقول لوك وأتباعه، وليست هناك قضايا تركيبية قبلية كما كان يتخيل كانت، ولا قضايا تحليلية توتولوجية من جهة، وقضايا تركيبية تجريبية من جهة أخرى، كما يقول المناطقة الوضعيون... لا شيء من ذلك يفسر عملية المعرفة، إن المعرفة، سواء نظرنا إليها في مستوى الراشد أو في مستوى الطفولة، هي ممارسة ذهنية لتحولات زمرية، ممارسة ذهنية على صعيد التجريد تجد أساسها الحقيقي والوحيد في الممارسة العملية لتحولات زمرية على صعيد الواقع، وليست مفاهيم المنطق وقواعده سوى انعكاس لقواعد زمر النشاط العملي على زمر النشاط الذهني التي تجد أصلها ومنبعها في تلك).

هل هذا الرأي للجابري يكاد أن..... واقفًا على رأس كثير من الأطروحات النقدية في اللغة والأدب، وهل سيفهم القارئ العادي ما أكتب؟ لا يهم، فهو لن يصل إلى هذا السطر من قراءة المقال، بل سينصرف إلى قراءة رواية يكتبها محترف في كل ما هو (شبيه الأدب الروائي) لتجد له جمهورا لم يحظ به نجيب محفوظ في حياته كلها ــ حظي محفوظ بمحاولة اغتيال!! ــ وازدحام شديد وتدافع على هذا المنتج من (الفشفاش والشيبس الروائي) في المعارض الدولية للكتاب. واكتب بهذه اللغة التي تؤذي كبرياء بعض القراء لأني ببساطة متحرر من سلطة الجمهور، لا يوجد لدي جمهور، لكن قطعًا يوجد قُرَّاء قليلون يدركون خطأك بلا تثريب، ويأخذون صوابك بلا تعقيب لأنهم تجاوزوا قنطرة (الذاتية المتورمة) في (أنا الفكرة، والفكرة أنا)، ومن قبلته المستقبل بروح كوزموبوليتية وسط مجتمع (ماضوي بطريركي) فهو واعٍ بمعنى (العزلة والمجتمع/نيقولاي برديائف).

هل يحتمل قراء توفيق السيف من العاديين فيما لو قفز بهم إلى عصر النهضة العربية، بقراءات معمقة في قضايا أحد رواد التنوير العربي مثل طه حسين وكتابه (الفتنة الكبرى) مثلاً؟ فكيف لو حاول تفكيك تجربة طه حسين مع الشعر الجاهلي أو اتجه - السيف - لتخصصه الأقرب في أطروحة (علي عبدالرازق) عن (الإسلام وأصول الحكم)؟... إنه سقف ردئ للحرية لأسباب تصنعها المجتمعات العربية أكثر مما تصنعها السلطة السياسية (الممثلة لها) في عدسات محدبة بين الجانبين، فيتضخم خوف السلطة من الرأي العام، ويتضخم خوف الرأي العام من السلطة. فكيف ننزع هذه المرآة المحدبة بينهما لتكون الحياة بأحجامها الطبيعية التي نجدها في كل دول العالم المتقدم، وليستطيع المفكرون بأنواعهم (اجتماعي، اقتصادي، أدبي، ديني، سياسي، فني.... إلخ) مد أجنحتهم إلى أقصاها في التحليق الفكري دون الخوف من خطأ نيران صديقة، أو (نبيطة) أحمق ملثم متكئ على طرف جدار في أحد الأزقة الثقافية.