قال أحد الحكماء، أعظم عدو للتعجب ليس الجهل، بل هو وهم المعرفة. وقال آخر كلما قل حظ المرء من الذكاء بدا له الوجود أقل غموضا، والنوم من أكبر العجائب وأكثرها غموضاً لولا أننا تعودنا على العيش معه، وبه، فحياة الإنسان تبدأ بنوم تسعة أشهر تقريبا، وتنتهي إلى نوم آخر وبين المرقدين يقضي الإنسان ثلث عمره أيضا في النوم. تلك الحالة المذهلة التي يكون فيها بحالة أشبه بالموت السريري لا يشعر بالزمن، ولا يعي ما حوله، لم يفهم الإنسان ما هي هذه الحالة، ولا ما هي طبيعتها، ولا الهدف منها، ولكنه اعتادها فرآها شيئا طبيعياً، واليوم هناك محاولات حثيثة لفهم لغز النوم، وقد كُتبت فيه مئات الآلاف من الأبحاث العلمية، لكن إلى الآن لا تزال النتائج لهذه المحاولات "المشكورة" تخلص فقط إلى نظريات تحل محل النظريات السابقة، وقد تحل محلها نظريات في المستقبل, ويبدو أن لغز النوم معقد بشكل أكبر من قدراتنا الحالية، وهذا لا يعني أن حل لغز النوم مستحيل، ولكنه لا يزال صعب فالمشكلات التي لم يجد العلم حلاً لها، ولم يعرف حتى الطريقة التي قد تحلها تصنف من المشكلات الصعبة، وقد يكون من أسباب صعوبة فهم النوم هو لأنه يتماس مع كبرى الغاز الوجود مثل الموت والحياة والوعي والزمن، وقد يكون من أهم حالات النوم هي الأحلام بل إن بعض النظريات تقول إنه هو الهدف الحقيقي للنوم، والإنسان اهتم بالأحلام منذ فجر التاريخ اهتماما أكبر من النوم ذاته، فقد كان الآشوريون يصنفون الأحلام إلى إلهية سماوية، وإلى شيطانية كاذبة، وكذلك المصريون القدماء واليونان وغيرهم، وبنيت المعابد الخاصة بالأحلام، وكان للأحلام دور كبير في مجريات التاريخ يصعب تخيل كيف كان سيكون الواقع من دونها ابتداء بغزو فارس لروما على يد ساورس العظيم أو غزو هانيبال لإيطاليا بدافع أحلام، إلى الحلم الذي أنقذ هتلر من الموت في صباه و الأمثلة بالعشرات أو المئات من هذا النوع، وكذلك كان للأحلام دور في مسيرة العلم منذ القدم فمثلا الطبيب الأغريقي جالينوس رأى حلما يعلمه كيف يعالج إحدى أمراض الآلام بقطع إحدى الشرايين، وابن سيناء يروي عن نفسه انه إذا احتار في مسألة رياضية أو فلسفية صعبة يسأل الله بإلحاح أن يفتح عليه بالإجابة فتأتيه في أحيان كثيرة في المنام، ولكن قد يقول قائل إن ثقافة العصور القديمة كانت ميالة لهذا النوع من الثقافة، ولكن الحقيقه أن حتى في العصر الحديث فإن الأمثال طافحة ويصعب حصرها، ابتداء من أبي الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت الذي دفعته ثلاثة أحلام لبناء فلسفته، ومندليف الذي رأى في المنام الجدول الدوري كاملا وأصبح أساس علم الكيمياء وجيمس واتسون عندما حل مشكلة صورة الحمض النووي واكتشف الشكل الحقيقي له كان قد رآه في المنام و أخذ نوبل على ذلك ، مثلما أخذها عالم الفيزياء نيلز بور عندما رأى في المنام صورة بنية الذرة وأخذ نوبل أيضا فريدريك بانتينغ باكتشاف الأنسولين وأنقذ حياة مئاة ملايين البشر من المصابين بالسكر بسبب حلم أيضا، وأوغست كيكوله اكتشف شكل جزيء البنزين بحلم...و القائمة طويلة جدا من هذا النوع وبهذا الحجم في عصرنا الحاضر رغم النزعة المادية التي لا تخفى على ذي بصيرة ثم إنَّه على الأغلب أن أكثر من هذه القائمة هم من نسيو أحلامهم، وبقيت الفكرة التي أدت الى اختراعاتهم، وكذلك لا بدَّ أن ليس كل المخترعين اعترفوا أن الفضل في اختراعاتهم لحلم، وليس لعبقريتهم، أما قوائم الأعمال الأدبية من شعر و روايات و موسيقى فهي طويلة جدا، واليوم هناك مدرستان تدرسان الأحلام الأولى: المدرسة النفسية التي تفترض أن ما يراه الإنسان في المنام هي أفكاره القادمة من العقل الباطن عندما تخف قبضة العقل الواعي في أثناء النوم. والمدرسة الأخرى: الفسيولوجية وتفترض أن الأحلام قادمة من الصور والمعلومات الموجودة في الذاكرة، ويحاول الدماغ معالجتها أو ترتيبها في أثناء النوم، وتبدو هذه العمليات للإنسان أنها أحلام، وفعلا قد تفسر هاتان النظريتان أغلب الأحلام، ولكن لا تفسر أنواعا أخرى من الأحلام، مثل الأحلام التي قادت إلى اكتشافات علمية كبرى و الأشعار و الموسيقى والنوع الآخر، وهو الأصعب على الإطلاق، وهي الأحلام التنبئية prophetic dreams التي يحاول المادين تبريرها بالصدفة أو عامل الإيحاء وهي تقريبا نفس التبريرات التي اقترحها أرسطو بما يتوافق مع اعتقاده (أن الله لا ينبغي أن يتواصل مع خلقه نهائيا) ومن الواضح أن هذا النوع من الأحلام هو الأقل حظا في عصرنا هذا المادي مناقشةً ومن يرى الكتب التي تناقش الأحلام كيف تتهرب بشكل لافت من الخوض فيها أو اختزالها بمكابرة واضحة مع أن الشواهد والشهود عليها بالملايين عبر العصور بل لا يكاد إنسان لم يمر بإحدى هذه الأحلام أو على الأقل من أقاربه وأصدقائه الثقات من تواترت شهاداتهم على هذا النوع من الأحلام المركبه كثيرة التفاصيل، إلى درجة أن بعض كبار المتعصبين ضد الأحلام التنبئية مروا هم أيضا بهذه التجربة التي لا يمكن تفسيرها ماديا، واعترفوا بذلك على مضض مثل الأديب البريطاني روديارد كبلينغ وغيره الكثير وحتى في عالمنا العربي كان علي الوردي ينكر الأحلام التنبئيه حتى رأى حلما يصعب تفسيره بالصدفة، إن تجربة الأحلام الصادقة العصية على الاختزال المادي تجعل الإنسان يشعر أن هذه الأحلام بوابة من عالمنا هذا الذي نعرفه إلى مكان لا يزال مجهولا، وكما قال "كوليريدج" صاحب القصيدة الشهيرة قوبلاي خان (التي هي بالمناسبة أتت له في حلم) يقول كوليريدج في إحدى قصائده: "افرض أنك حلمت بأنك صعدت إلى السماء ثم أنك دخلت الجنة وقطفت إحدى ورودها فاستيقظت.. ووجدت الوردة في يدك!"