كل ما عاشته المنطقة العربية من صدمة حضارية مع الحداثة منذ دخول نابليون إلى القاهرة (1798م) وحتى صدمة سقوط بعض الأنظمة العربية (2011) بمخترعات (رقمية) عبر تطبيقات وسائل التواصل (فيسبوك، تويتر... الخ) على يد شباب أقرب للأحداث من سن الراشدين يؤكد أن قدر الحداثة ما زال يفور بالمفاجآت.

أقول لو جمعنا هذا كله في كفة، وما رآه الناس في داعش (أبوبكر البغدادي خليفة داعش 2013) من سفك دم وهدم آثار وإفساد لرجحت كفة داعش في مستوى التأثير والصدمة النفسية لاستعادة الرشد إلى طريق التنوير والحضارة الإنسانية الحديثة، والخروج من مقبرة الأسلاف والتخلص من عبادتهم، فانهدام النموذج الداعشي كان له كبير الأثر على الوجدان العمومي في إعادة السؤال الحضاري على نفسه من جديد، كما أعاد القوميون واليسار على أنفسهم سؤال النهضة الحضارية بعد (نكبة 1967)، ليحتضنهم (الرضا الأمريكي) فيضعهم تحت عباءة الإسلاميين في حربه الباردة ضد السوفييت، لنراهم بالعباءة على البدلة الإفرنجية (محمد عمارة نموذجاً).

إن داعش ظاهرة توحش ديني صادمة لقناعات الوجدان العام (حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة 2014) ليستعيد العرب سؤالهم الحضاري أو ينجرفوا نحو الهاوية، وهذا ما تمناه المتطرفون من خلال أحد كتبهم (إدارة التوحش صدر 2004)، وهنا تظهر مهمة القيادات العربية ومسؤوليتها في انتشال شعوبها من براثن التطرف السني الذي تقاطع مع التطرف الشيعي مما حدا بأدونيس أن يقول في كلمته باللوفر ما نصه: «وسألت الزمن: كيف تنهش أسنان التاريخ كبد الحرية، ولماذا لم يعد الممثل يقوم إلا بالأدوار التي ليست له»، ما دعاني إلى تساؤل عن العمامة العراقية والأدوار التي ليست لها، فالعراقيون أدرى بشعابهم، لأني لا أعلم ما الذي جعلني أقارن بين مواقف مقتدى الصدر في زمننا هذا مع ما قرأته في المجلد الثاني من كتاب حنا بطاطو عن التاريخ السياسي للعراق، إذ يورد بطاطو عن أربعينيات القرن الماضي ما نصه: (وصفت «لجنة العرب الديمقراطيين في باريس».... الصدر بأنه «ملاك حارس ــــــ كان الصدر رجل دين ـــ ولكنه عميل مموه للإمبريالية البريطانية» وحتى يومها كان التمويه رقيقاً جداً في رأي فهد، إذ شعر أن ليس لحكومة الصدر من دور إلا تصبين «من الصابون» الحبل لأولئك الذين يريدون شنق «الوثبة» وإبطال نتائجها، وكتب فهد إلى المسؤول الأول للحزب في مطلع فبراير يقول: «ليس هدف هذه الحكومة إجراء تغييرات أساسية تتفق مع مطالب الجماهير، بل إن هدفها هو تهدئة الشعب، وإعادة المياه إلى مجاريها، وهو ما يعني في الواقع منح الإمبرياليين وطفيلييهم الوقت لحياكة المؤامرات... واستعادة السيطرة... لهذا، أبقوا عيونكم مفتوحة واحترسوا من كل ما يسلب الشعب مكاسبه... من الواجب تعبئة الجماهير وحثها على التظاهر، وتشكيل الوفود، وتقديم العرائض والضغط من أجل..... إلغاء معاهدة 1930... وجلاء القوات الأجنبية وإطلاق الحريات الديمقراطية.... وتأمين خبز لائق للشعب.... ومعاقبة نوري السعيد، عميل الاستعمار الأول») راجع المجلد الثاني من كتاب العراق لحنا بطاطو ص 222 ترجمة عفيف الرزاز. وأعتذر من المثقف العراقي فيما لو كان المنقول (كفراً) فقد جرى العرف بأن (ناقل الكفر ليس بكافر)، ويبقى في التوافقات العربية التي نراها كمواطنين في المشرق العربي ما يجعلنا نطمح إلى تجاوز لغة (الذحل الطائفي والتاريخي) بين الدول إلى لغة (التنمية والتقدم والازدهار) بخطوط تجارية متبادلة وخطط تنموية مشتركة.

نعود للتذكير بأن الحملة الفرنسية بقيادة نابليون لاحتلال مصر قبل قرنين تم طردها من قبل البحرية الملكية البريطانية بقيادة الأميرال نلسون!! غير غافلين عن شبه الليلة بالبارحة على خريطة المشرق العربي لقاعدة عسكرية روسية هنا، وقاعدة أمريكية هناك، والصين تريد الوجود بطريقتها (تحت الطاولة)، بل حتى تركيا وإيران تزببت على الخريطة العربية قبل أن تتحصرم فأقول: هناك طريقان لا ثالث لهما في مشروع الدولة العربية الحديثة، فإما (التعاون والتوافق والتسامح) طريقاً للازدهار الاقتصادي والأمن السياسي لعموم المنطقة بما فيها إسرائيل التي نكن لها العداوة بقدر استكبارها على الأيادي العربية الممدودة بمبادرات السلام العربي منذ (1981) وحتى الآن، وصولاً إلى صلفها في التعامل مع التطرف والإرهاب في الأراضي الفلسطينية الذي كسر رقاب المعتدلين الفلسطينيين قبل أن يقفز إلى مهاجمة إسرائيل، لتمارس تطرفاً أشد يحيل المعتدلين إلى وقود لصالح التطرف المقابل في دائرة مغلقة لن يستفيد منها سوى (التطرف الأصولي في الديانات التوحيدية الثلاث) فهل فقد الحكماء من الإبراهيميين زمام أمرهم أم هناك بقية من أمل ينقذ المنطقة من الطريق الثاني (شديد الغموض) في تراجيديته الفادحة.

وأخيراً نأتي لبوصلة الحداثة ورأس الحربة في النهضة الحضارية للمنطقة العربية، وأقصد بذلك (المرأة ثم المرأة ثم المرأة) فالمرأة هي بوصلة الحداثة الاجتماعية فمن دونها لن يكون هناك نهضة وتقدم وازدهار، فهي المؤشر الحقيقي للنهضة الحضارية على مستوى الشعوب والدول، ولن يكون هناك نهضة حضارية في مجتمع تكون فيه المرأة إما (مقموعة ومنتهكة وذليلة) أو (مازوخية ترى السعادة في هذا القمع والانتهاك والإذلال) وحداثة المرأة ـ كما أفهمها ـ تتجاوز الشكليات الخاصة في لبس الذهب على شكل بناجر/غوايش وحلق، أو عمليات تجميل وبوتكس، أو لبس عباءة كتف أو رأس، فهذا (شأن شخصي) بل حداثة المرأة في (حرية وكرامة وإخوة) تعرفها العقول الحرة والقلوب النبيلة. فحرية بلا كرامة انحلال وكاوس، وكرامة بلا حرية زنزانة وأصفاد من ذهب، أما الإخوة فلن تكون دون استعادة العرب لمروءتهم التي عرفوها منذ آلاف السنين قبل أن يخرمها المتعصبون دينياً بحذلقاتهم القاتلة للمروءة والإنسانية، ليعجز الناس عن إنقاذ وإسعاف بعضهم في ما لو مثلاً (احترقت مدرسة بنات) راجع جريدة الجزيرة الثلاثاء 28 من ذو الحجة 1423 العدد (10757) بعنوان (حريق هائل في متوسطة للبنات يترك 14 متوفاة و49 مصابة). وعندما استعدنا مروءتنا وإنسانيتنا في زمننا هذا لم نعد نستغرب عناوين الصحف تتحدث عن امرأة تنقذ شاباً بعد غرقه، أو أخرى تنقذ شاباً تعرض لحادث سير وصولاً إلى صورة المجندة في وزارة الدفاع برتبة وكيل رقيب أمل العوفي وهي تحمل طفلاً تم إجلاؤه رفق عائلته من الحرب الأهلية في السودان.