إن قضية اللغة وتطورها تُعَد من أبرز القضايا الحضارية. وبما أن ما لا يتطور يندثر، تُطرَح دوماً إشكالية اللغة العربية بوصفها لغة قومية، تجتمع حولها هوياتٌ مجتمعية مختلفة، تبدأ من المحيط ولا تنتهي على حدود الخليج. فاللغة العربية لغةٌ حية، لا يُمكن أن تموت، لكنها اليوم تُجاهِد وسط بحر من اللغات. قد تبدو عاجزة مصطلَحِيّاً متى اشرأبّت الثورة التكنولوجية أكثر فأكثر، وكشّرت عن أنيابها المُعولمة، لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها لأنها ترتبط بالحياة، واستطاعت عبر تاريخها تطويعها بلغات محكيات شكّلت مخزونها المصطلحي الذي عوَّض كل شيء. أمام هذه التحديات الراهنة، هل ستصمد بَعدُ هذه اللغة؟ أم ستتحول إلى تحفة لسانية عرَضية ولا تُستعمَل؟

قبل البحث في أي إشكالية، يجب عدم إغفال أن العربية هي اللغة الأم لحضارة نَمَت مع السنين حتى استطاعت أن تحتوي في محيطها حضارات متعددة. ولعل هذا ما جَعَلَ منها الجامِعَ التعدُّدي في مجتمعات تركبت وفاقاً للقواعد الإثنية. وهذه التعدُّدية فرضت تواصُلاً حضارياً مع من قد يتشابهون فكرياً وحضارياً. وهذا بدوره ما خَلَقَ إشكاليةً جديدة بدت في ارتباط بعض المكونات الحضارية بالحضارة الغربية تارة، وببعض الحضارات الشرقية طوراً.

ولعل هذا ما أدى إلى تنامي الأفكار السياسية وارتباطها بالأبعاد الثقافية، ما أوجد إشكالية تضارُب المصطلحية الأجنبية مع تلك العربية. فضلاً عن أن قصور العربية أحياناً عن مواكبة تطلُّعات الأجيال الجديدة يرتبط بقضية تكوين المخزون اللغوي الذي يبدأ من عمر الطفولة المبكرة المرتبطة بشكل مباشر بالبيئة التي يحيا فيها الإنسان. لذلك، بَدَا بعضُ المُجتمعات العربية متفوقاً في الركب الحضاري، بخلاف البعض الآخر.

الاستعمار الجديد

وهذا مع فَرْضِ إشكالية التعارض بين المبدأَيْن الإيديولوجي والتربوي بشكل قاطع؛ حيث يَعتبر المنطق الإيديولوجي أنه من المُفترض تدريس المواد العلمية باللغة العربية، لكن المنطق التربوي يرى أن تدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية هو أقدر من حيث إيصال المفاهيم العلمية. مع العِلم أن أهمية تدريس المواد العلمية باللغة العربية تكمن في تعزيز الإبداع، ما قد يؤدي مستقبلاً إلى جودة في تعليم لغة الضاد.

ولعل هذا ما اعتُبِرَ من أبرز أسباب قصور اللغة العربية كلغة مُواكبةٍ للتطور العلمي. فيما التاريخ يُعلمنا أن العرب كانوا الروّاد في مختلف الميادين العلمية، وفي الماضي كانت المصطلحات «تتأجْنَب»، فيما باتت اليوم تتعرَّب وتُتَرجَم. زدْ إلى ذلك دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ هذا الدور الذي انعكس بشكل أو بآخر بصورة سلبية نوعاً ما على تحول اللغة العربية إلى لغة أكثر جموداً من ذي قَبل. فمواكبة هذا التقدم الإعلامي فرضت مهارات لغوية أجنبية جديدة على حساب لغتنا الأم. حتى صارت اللغة العربية لغة بعيدة من الواقع المجتمعي الذي نعيشه في مجتمعاتنا المتعددة، ولاسيما أن هذه التعددية تم استغلالها من قبل الفكر الغربي لتحقيق المزيد من التوسع الاستعماري الفكري على حساب الحضارة العربية؛ وذلك عبر بوابة ضرب اللغة العربية بإظهارها فاقدة لمصادر الإثراء والموارد البحثية. فبات المتعلم العربي عاجزاً عن جعل اللغة العربية، لغته الأم، لغة لأبحاثه العلمية.

اللغة العربية حاجة المؤمن

لكن مهما تم تضييق الخناق على اللغة العربية في محاولة لإقصائها، تبقى هي لغة القرآن الكريم؛ وهي أيضاً حاجة المؤمن والمتبحّر في الفكر الإسلامي في أيّ صقعٍ من الأصقاع الأربعة كان. وهذا ما يَسمح لها بالبقاء حية، لأنها لغة التواصل بين الذين يحملون هذا الفكر، أو حتى بين الذين يريدون سبْر أغواره. فهذا ما يجعل منها لغة حية تستطيع مواجهة أمواج إلغائها العاتية. مع العِلم أن بعض المجتمعات تمايزت في لغاتها المحلية، لكن ذلك أبقى قدسية اللغة العربية بسبب ارتباطها بالبعد الديني للحضارة العربية.

وفي هذا السياق، طفت على الواجهة إشكالية الازدواجية بين العامية والفصحى، ومدى التباعد أو التقارب بينهما. مع العلم أن المعين الآرامي هو المنهل الأساس الذي غرفت منه اللغات العربية في مختلف البلدان. وهنا الاختلاف بين الألسنيّين الذين يرفضون الاعتراف بهذه المحكيات كلغات أساسية، إنما يصنفونها في إطار اللهجات المحلية ليس أكثر. مع العلم أنها بحاجة إلى عملية صقل كبيرة وجوهرية للخروج بقاعدة مصطلحية موحدة الأسس وموحدة المعايير بين مختلف البلدان.

وهذا ما يمكن أن يتم الاستناد فيه إلى اللهجات البيضاء الجامعة، كل بلد بحسب فرادتِه. عند الوصول إلى تحقيق هذه الغاية فقط، نتمكن من الاستفادة من هذه المَحكيات، ونقوم بتأطير أسسها اللسانية، لتصبح عن جدارة لغات متفرعة من العربية، من دون أن تقوم بمحق اللغة الأم أو محوِها. ففي نهاية المطاف، ما لا يتطوّر سيَنطفئ حتماً. وما لا نريده هو انطفاء شعلة اللغة العربية، لا بل الحفاظ عليها في المستوى العلوي كلغة مشتركة بين الأصقاع العربية، المبنية على قاعدة تعددية الهويات المجتمعية، ولاسيما بعدما ثبتت التجارب التي تم خوضها في أوروبا في القرنين المُنصرمَيْن، وفي العالم العربي في القرن الماضي، بتراجع القوميات الكبرى.

وهذا ما سيسمح لمتعلمينا في مختلف البلدان العربية بالاستفادة من المخزون اللساني الكبير الذي ستوفره هذه اللغات إن تم الوصول إلى تثبيت قواعدها، ولو بالحد الأدنى من القواسم المشتركة. وذلك للوصول إلى نواتج علمية تثري الحضارة العربية، من دون أن يكون هذا الإثراء على حساب اضمحلال اللغة الأم. وهذا كي لا تكرر الأوطان العربية التجربة التي خاضتها اللغة اللاتينية في أوروبا في الماضي البعيد. الأمر الذي سيسمح بدوره أيضاً بإثراء لغة التواصل، من دون أن تتعارض مع عُلوية اللغة الفصيحة، ومن دون أن تنحدر هذه اللغة إلى دركات استخدام المصطلحية الأجنبية والحرف اللاتيني على حساب المصطلحية العربية والحرف الهندي الذي كتب فيه أجدادنا هذه اللغة. وهو ما سيشعر الأجيال الطالعة بحالة الانتماء العربي، من دون أن يصبحوا «متعَوْرِبينَ» للحفاظ على تاريخهم فقط؛ بل هذا ما سيسمح لهم بالتعبير عن هويتهم الكيانية الأصيلة أكثر.

خارطة الطريق المعرفية

للوصول إلى تحقيق هذه الأهداف لا يُمكن تجاوُز أبسط قواعد العلوم المَعرفية الحديثة التي تعمل وفاقاً للخرائط الدماغية. ففي نهاية المطاف استجابة دماغ الإنسان تكون بحسب الطريقة المقطعية. لذلك، لا يُمكن اتخاذ العربية كلغة تستجيب لغايات اغترابية الدماغ العربي فقط؛ لأن هذا الدماغ ينطلق من هذه البيئة المتعدة الحضارات. فبالتالي إن أي عمل على انصهارها تحت مظلة حضارة واحدة سيؤدي إلى استيلاد صراع حضاري عربي - عربي، قد تكون اللغة أولى ضحاياه. من هذا المنطلق بالذات، ينبغي الحفاظ على طريقة تعليم اللغة العربية في مؤسساتنا التربوية، بغض النظر عن الصعوبات التي قد تواجهنا. مع ضرورة محاكاة العقل العربي انطلاقا من مفهوميته الإنسانية والتفكرية. وذلك حتى لا يصبح هذا العقل بحال غربة عن تاريخه، وكي لا يعيش في حالة هجانة في يومياته، وكي لا تبقى رؤاه المستقبلية أضغاث أحلام يحاول عبرها التمثل بالحضارات التي لا تشبه تكوينه الجيني والفكري.

إذا نجحنا في رسم خطط ثقافية منطلقة من كيفية بلورة هذه الأفكار، نستطيع حل إشكاليات القراءة التي تواجه متعلمي الأجيال الطالعة المدمنين على استعمال الألواح الذكية، والألعاب الإلكترونية التي بطريقة بنائها الخوارزمي بعيدة من بناء خوارزمياتنا الفكرية العربية. ففي نهاية الأمر، اللغة العربية بتنظيمها هي لغة فيزيائية تعتمد الشكل الهندسي في الكتابة، وحتى في القراءة. من هنا، ضرورة الاستفادة من المدرك البصري الذي يتعرض له أطفالنا في طفولتهم المبكرة اليوم عبر شاشات ألواحهم الذكية قبل تعرفهم إلى هندسات الحروف العربية. وهذا ما سيسهم في تطوير مهارة الكتابة العربية.

وهذا بدوره ما سيوفر حل طلاسم المحتوى الكلمي الذي بات يرتبط إلى حد بعيد باللغات الوافدة إلى حضارتنا. وذلك من خلال العمل على بلورة التداخل بين العربية كلغة ثقافة علمية في باقي المواد العلمية بالحد الأدنى. وهذا ما سيعزز أواصر الارتباط الثقافي بين المتعلم ولغته. ما سيسمح بإنتاج متعلم يتحلى بمواطنة عربية قادرة على مجابهة إشكاليات الدمج الحضاري، عبر آخر تجليات العولمة وإرهاصاتها. من هنا، تبرز الحاجة إلى نشر إستراتيجيات جديدة في العلوم من حيث تحديث المعاجم، وتفعيل علم المصطلحية خدمة للمعجم العربي بهدف «تَيْويمِه» (updating). بين اللغة والهوية

أما في موضوع اللغة والهوية فيكمن ذلك في أفق التحدي في البحث عن المعرفة في عصر تعولمت فيه هذه المعرفة. ولعل هذا ما خلق تهديداً إضافياً استجد على اللغة والهوية العربية على السواء، لأن اللغة هي وعاء الهوية وعنوان الوجود. وكلاهما مرتبط بعضه ببعض. ولا تتثبت هوية الإنسان إلا عبر معرفة الآخر. ولعل ذلك ما قد يسمح بالحدّ من الصراعات العنيفة في العالَم العربي، على الرغم من وحدة عنصر اللغة والحيز الجغرافي. وهذا ما سيجعل العربية وسيلة للحوار، حيث قد تمتد عبرها جسور التلاقي.

ذلك كلّه، مع التأكيد على التفاوت في مفاهيم السيطرة، حيث تتداخل المفاهيم الأخلاقية لضبط هذا التفاوت. من هنا، تبرز أهمية اللغة في العناية بالمسار الوجودي للشعوب. فهي إذاً، تشكل المسار الطبيعي لهذا الوجود، وبالتالي لا يمكن أن تكون خارج المتن الثوروي التطوري للإنسان؛ لأنها تشكل باقي العناصر التي تكون الهوية البشرية.

لغتنا حية

لغتنا حية بالفعل، لكنها يمكن أن تموت بسبب الفاعل الذي يستخدمها. فما يجب العمل عليه هو الإنسان العربي بهدف نقله من متفاخر بما قد يكتسبه من حضارات العالم ولغاتها ليغني نفسه، إلى متفاخر أيضاً بتاريخه وحضارته العربية. وهذا لن يتم إلا من خلال العمل على برامج ومناهج وطرائق تعليمية - تعلمية تتيح للمعلمين والمتعلمين على السواء قدرات تحصيلية باللغة العربية بهدف النجاح في نقلها؛ وذلك على قاعدة أن المتعلم يبدأ تعلمه ليقرأ، ومن ثم يعود فيقرأ ليتعلم. ولتعزيز دور اللغة العربية وإبقائها حية يجب أن يتم ذلك في المراحل التعليمية الأولى باللغة الأم. وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تمكين المعلم، فالمعلم الجيد يفسر، والمعلم الممتاز يشرح، بينما المعلم المبدع يصبح ملهماً لمتعلميه. وهذا ما يجب العمل على الوصول إليه في مؤسساتنا التربوية. ويجب ألا يقل هدفنا عن إعداد معلمين ملهمين للغة العربية. وهذا ما سيسهم في نهضة مجتمعاتنا العربية، على تعدديتها في الوحدة، ووحدتها في التعددية. مع ضرورة العمل على تمكين المعلم من إرساء المهارات الاجتماعية في معلميه ليصبحوا فاعلين اجتماعيين في مجتمعهم، وليكونوا الأبرز في نهضته من كبوته. فالمعرفة تبقى مع آخرين، ومن أجل آخرين انطلاقاً من المهام التي ننفذها في علاقاتنا في المجتمع. إنْ نجحنا في تحقيق ذلك، تبقى لغتنا حية. أما إن لم ننجح بذلك، فهل سنستطيع الصمود بلغتنا، وسط عالم بات فيه صراع الحضارات أولوية مصلحية ونفعية على حساب الإنسانية، على أمل أن تصبح لغتنا لغة حوار الحضارات لا صراعها؟

* كاتب من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.