قبل أن نطرح وجهة النظر بخصوص تعليم الفلسفة للأطفال، سواءً في مراحل الطفولة المبكرة أو في مراحل التعليم الأولي، يجب علينا تقديم مبررات علمية وتربوية لمدى ملاءمة تعليم «الفلسفة» لعالم الطفولة وبراءتها. واطلاعي البسيط على بعض من البرامج والندوات المنعقدة مؤخرًا، التي تقدم مقرر الفلسفة طريقًا نحو التسامح الديني أو اكتساب معجزة التفكير الناقد. لا شك أن ربط الفلسفة بالتفكير الناقد والتسامح، لم يكن مبنيًا على أي أسس علمية، ولا يتجاوز كونه دعاية للفلسفة من قبل كتاب ومثقفين فهموا الفلسفة بصورة خاطئة، أو أعجبوا بشخصيات رائدة في تاريخ الفلسفة الغربية، وبالتالي اقتبسوا كثيرًا من المناهج التربوية وطرائق التدريس الحديثة، وقدموها على هيئة برامج ودورات تعليمية للأطفال واقحموا الفلسفة وأسماء الفلاسفة للإيعاز بأن ما يطرحونه من صميم الفلسفة.

الفلسفة وكما طرحنا في مقالات سابقة تراث ديني يوناني يلقي الضوء على معتقدات وثقافات الشعوب اليونانية، وعلى هذا الأساس يجب أن تدرس الفلسفة، باعتباره تراثًا دينيًا وثقافيًا للشعوب اليونانية، فهل مرحلة الطفولة المبكرة أو مرحلة التعليم الأولي، توقيت مناسب لتعريف الأطفال بمعتقدات الشعوبية اليونانية؟ لا أعتقد من منظور تربوي أن هذه المرحلة العمرية مناسبة لتشجيع الطفل على حب الاطلاع على ثقافة الغير خاصة فيما يتعلق بالعقائد الدينية.

لنتحدث قليلًا عن الأصل التاريخي للفلسفة. كيف نشأت الفلسفة وهل هي معجزة يونانية كما يقدمها كثير من المفكرين العرب والغربيين؟ وتقديمها بهذه الصورة لا يخرج عن كونه شكل من أشكال التعصب العرقي من جانب المفكرين الغربيين، ووقوع في فخ المركزية الغربية من جانب المثقف العربي. نظرة فاحصة ومتأنية للفلسفة الأوروبية والفكر والأدب الأوروبيين نجد أنها تتصف بظاهرة فكرية مميزة، وهي العودة المستمرة لليونان والعصر اليوناني. فكثير من فلاسفة أوروبا ينظر إلى النصوص اليونانية بشعور ديني يقارب شعور المتدين لكتبه المقدسة. فالفلسفة وعبر تاريخها الطويل ليست في الواقع إلا محاولات للدفاع عن العقائد الدينية ومحاولة تأويلها. وبالتالي لا يمكن فهم الفلسفة خارج سياقاتها الدينية المكونة لها. نشأت الفلسفة الأوروبية نتيجة تراكم معرفي ديني، وأصبحت تجسد الشخصية القومية للشعوب اليونانية القديمة، وانتقلت للشعوب الأوروبية الحديثة التي ما زالت تحمل انتماءً دينيًا وعرقيا للموروث اليوناني.

عودة فلاسفة أوروبا إلى التراث اليوناني لأنه يمثل مرجعًا دينيًا للفكر الأوروبي، فعقيدة وحدة الوجود ما زالت مهيمنة في الثقافة الأوروبية ولا لها أتباع ومناصرين. هذه العقيدة التي تضفي طابعًا مقدسًا للطبيعة لم تكن معجزة يونانية أو اختراعًا يونانيًا في حقيقة الأمر. فالديانة الهندوسية قائمة أساسًا على عبادة قوى الطبيعة، ولما كان وصول الآريين إلى الهند عن طريق آسيا الصغرى فلابد أنهم تأثروا بحضارة البلاد التي مروا بها. عبادة مظاهر الطبيعة التي تمخض عنها فكرة وحدة الوجود التي تمثل الأساس واللب لمجمل أفكار فلاسفة أوروبا مثل ديكارت وجان جاك روسو وهيجل وسبينوزا، كانت ظاهرة دينية قديمة سابقة لليونان، والحضارات الشرقية هي الأصل في نشوء فكرة وحدة الوجود وبذلك تكون اليونان مجرد مستقبل لموروث ديني سابق لها.

أحد الفلاسفة المؤثرين في الفكر الأوروبي، وهو فريدريك نيتشه، ويحظى كذلك بانتشار واسع في الأوساط الفكرية في العالم العربي. كان أحد المتأثرين بالديانة الهندوسية ويمكن اعتبار الفكرة الرئيسة في فلسفته تراثًا دينيًا عند الشعوب الهندوسية وهي فكرة العود الأبدي وهي خلاصة ونتيجة لفلسفة نيتشه. فقد كان نيتشه، من خلال فكرة العود الأبدي، يعيد شرح التصور الهندوسي لدورة الحياة والتناسخ وتتلخص الفكرة في أن مجموعة من الأحداث الدورية تتكرر بشكل دوري، ويفسر نيتشه في فلسفته طريقة الحصول على الخلاص والتحرر عن طريق الخروج من دورة التناسخ. وإيمان نيتشه بعقيدتي تناسخ الأرواح ووحدة الوجود يفسر بشكل واضح عداءه الكبير للأخلاق المسيحية ومبادئ المسيح. فعقيدة وحدة الوجود كانت على الدوام في حالة صدام مستمر مع قيم ومبادئ الأديان السماوية.

بعد تقديمنا لهذا الملخص حول علاقة الفلسفة بالأساطير والمعتقدات الدينية الشرقية، فإن فكرة تدريس الفلسفة يجب أن تضع في الاعتبار سياقها التاريخي والديني، ومن التضليل تقديمها باعتبارها مشتركًا إنسانيًا يمكن تقديمه للأطفال على هيئة حلقة تعليمية أو دورة تدريبية أو مقررًا دراسيًا. باعتبارها أفكارًا تقدمية وراقية أو وسيلة تربوية لتعليم الأطفال التسامح ومنحهم معجزة التفكير الناقد. وهذا بلا شك توظيف مضلل للفلسفة. فالطفل في هذا العمر المبكر لا يملك الأدوات النقدية الكافية التي تسعفه للاطلاع على معتقدات وأساطير الشعوب الدينية.