أنهى سعد زغلول رسالةً طويلة إلى محمد عبده بقول: «اغفر لي الإطالة، فلا وقتَ عندي للاختصار»، هذا المعنى الذي طَرحه سعد زغلول يُمكِن أن يكونَ بهذا التعبير: «إذا لم يكن لديك وقتٌ للاختصارِ فليسَ لديك وقتٌ لإبداعِ الكتابة»؛ لهذا ربما يَحلّ التهلهلُ في قلبِ الكتابة التي يزيد مبناها على معناها.

من أمارات ما تصبو إليه المقالةُ حكاية وقعت للكاتب «راي برادبِري»، مفادها أنه كتبَ نصًا سينمائيًا مكونًا من 360 صفحة، فقال له المُخرِج: اقتطِع من النصِّ أربعين صفحة!. «تضايق» راي وتَبيّنَ له في الوهلةِ الأولى أنَّه لا يستطيع، لكنّه استطاعَ، فلمَّا استطاع طَمِع المخرج فقال: اقتطع أربعين أخرى، هنا «اندهش» راي وشَعر أنه يُمزّق «حقائق»، لهذا قال لا يمكن، ولكنّه جَرّبَ فاستطاع، فطمع المخرج أكثر فقال: اقتطع ثلاثين صفحة إضافية، فصرخ راي لقد بلغنا حدّ المستحيل، لكنَّه جرب فاستطاع، فنظر إليه المخرج بابتسامةٍ خبيثة تجاوزت المستحيل: الآن احذف ثلاثين أخرى، فدبَّ نشاطُ «ما بعد المستحيل» في جسد راي فحذف ثلاثين صفحة أخرى، فصار النصُّ 120صفحة.

لم يكن راي يحذف، بل كانَ يزيد الوقتَ ليحول النصَّ من كلام عاديّ إلى نصٍ إبداعي؛ فقد سُئِل في حوارٍ عمّاذا يحذف؟ فقال لا أحذف، بقدر ما أستخدم المجاز للإنجاز، ومثاله في أحدِ كتاباته السينمائيّة قال يَصِف شخصية: «أبٌ يبسطُ ذراعيه كالديك الرومي، ويمدُّ قدميه كالّلقلق»، وهو بهذا يُعوِّل على مخرجٍ يعمل بنظرية الاختصار، فيُفجِّر مِن هذا التشبيهِ البلاغيِّ تَشبيهًا مرئيًا يُبهِج المشاهدين ويُمتِعهم.


تَقتَرح هذه المقالةُ أن تُسمِّي الاختصارَ بهذا المعنى تجربةَ «ما بعد المستحيل»، فالاستحالةُ ما هي إلا ظنون مغلقة تُفتِّقها اللغةُ، ومن ثم توصِلنا هذه التجربة لمفهوم «الاختصار الذي نعيشه»، ويُمكِن أن تُولِّدَ هذه التجربة أشياء متعددة، كما تتوالد حكايات ألف ليلة وليلة من بطونِ بعضها، ومن هذا التوالد طَرحُ نظرةٍ جديدة لعلاقةِ الكاتبِ بالمخرج، ونفي مقولة: «المؤلفون من الزهرة والمخرجون من المريخ»!.

وهذه العلاقة تقوم على قاعدةِ الاختصار ذاتِها، فالكاتبُ ذاتٌ تخلق الشخصيات والأحداث وصراعاتها على الورق، ثم أي محاولة لتجسيد ذلك يُصاحبه سؤالُ المطابقة بين الورق «الذهن» والخشبة «العين أو الواقع»، ومن ثم ندخل في صراعٍ فلسفي لا ينتهي مع سؤال: «مَن ربُّ العمل؟».

ولا ينطلق العملُ -فعليًا- إلا بأن يَخلق المخرجُ الحقيقةَ للمشاهد بعيدًا عن سؤال المطابقة!، لكن في لحظةِ التجسيد نجد أنَّ المخرجَ سيقابل الممثلين الذين يصنعون حقائق مغايرة لِمَا أراده المخرج بالضبط، ومن ثمَّ ندخل في سؤال آخر: ما الحقيقة بين رؤية المخرج وتفاصيل الرؤى التي تصنعها الشخصية من روحها؟ ما دور «الانسجام» هنا في صنع الحقيقة؟ ثم لو انتهينا من كل ذلك سنصطدم بالجدار الرابع؛ جدار المتلقي في لحظة العرض، ذلك الذي شارك صُناع العمل منذ لحظة التأسيس.

ومع كل هذا نحن نرى العمل كما لو كان من عمل كُلِ واحدٍ على حدة، وفي الوقت نفسه متآلف كأنَّه من عمل واحد فحسب، هذه المقالة تقول إنَّ المؤلِف لم يكتب إلا على طريقة الاختصار المبطّن، وكذا المخرج، بل إنَّ الممثلين دخلوا في جَوٍّ من الاستعارة التمثيليّة، وتدربوا عليها وهم يَطؤون خشبةَ المسرح، وكُلُّ ذلك يأتي كيدٍ خفيّة، وليس مدروسًا بوعيٍ تامٍ، لهذا ربما بقدرِ استكناه الإبداع الاختصاريّ يُقابله ذوقٌ اختصاريٌ موازٍ لدى المتلقي.

ويبدو للمقالةِ أنَّ اليدَ الخفيّةَ التي تَجعل كاتبَ الأعمالِ المرئية، يَعيشُ بعقليةِ مخرجٍ، والمخرج بعقليةِ كاتب، تَرتكِز في تجربةِ ما بعد المستحيل، وهي التي تَعني أنَّ الوجود لا يُعاش إلا باختصاره، وربما لولا الاختصار لما قامت الحداثةُ، ولما رأى الناسُ العلمَ ونتائجه المبهرة؛ لهذا تخافُ الكتابةُ الإبداعيةُ من أن يُغرَّر بها وتنحو نحو التراكيب الشفهية.

أخيرًا.. هل نَستطيع أن نُغمِضَ أعيننا ونتخيّل الوجودَ بلا اختصار؟ لنفكر بها من خلال حيواتنا الضيقة.

التفاتة:

ربما نحتاج أن نقول: إن الاختصار فكرة وجودية، واختصار الكاتب المبدع الذي يتماس مع الوجود، يختلف عن الكاتب المتماس مع العروض المرئية.