تعرضت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ نشوئها إلى هجمة إعلامية معاكسة يحتاج شرحها وشرح أسبابها إلى العديد من الصفحات. ومع ذلك، فإن حجم هذه الهجمة المعاكسة - منذ تأسيس الجبهة عن طريق اندماج ثلاث فرق (شباب التقاني - الفرع الفلسطيني في حركة القوميين العرب، وأبطال العودة، وجبهة التحرير الشعبية) في تشرين الأول 1967 حتى كانون الثاني 1969، حين تكرس نهائيا تقريبا انشقاق الفريق الذي أطلق على نفسه فيما بعد اسم «الجبهة الديمقراطية» - على الجبهة الشعبية بين هذين التاريخين كان أقل بكثير من الهجمة التي تضاعفت في أعقاب ذلك، ولا تزال مستمرة، بشكل أو بآخر، حتى الآن.

ومنذ تشكيل الجبهة الشعبية كان من الواضح أن هذا الفريق الطليعي في حركة المقاومة المسلحة هو «أرض حرث» قابلة وحساسة للكثير من التطورات المتسارعة التي كانت تؤدي على الفور إلى انعكاسات سياسية وتنظيمية وعسكرية داخل الجبهة، ولعل هذا بالذات ما أدى إلى ثلاث نتائج أساسية:

أولا: شعور الأطراف المختلفة باحتمالات «الخطر» الذي يشكله التطور المتسارع داخل الجبهة الشعبية، وبالتالي محاولة العمل على حصاره.


ثانيا: الانشقاقان اللذان حدثا داخل الجبهة: الأول «جبهة التحرير الشعبية الميالة إلى النهج العسكري البحت»، التي وجدت أنه من الأفضل لتوجهاتها أن تخرج من العلاقة التنظيمية التي عقدتها مع «شباب النار» و«أبطال العودة» في تشرين الأول 1967 أمام النمو المتسارع لعملية الالتزام بالماركسية اللينينية. أما الانشقاق الثاني فكان خروج مجموعة اعتبرت أن ولاءاتها اليسارية «أكبر حجما» من أن يتسع لها الإطار التنظيمي للجبهة الشعبية. أما فريق «أبطال العودة» فقد اتخذ قرارا بالاندماج التنظيمي الكلي في الجبهة في كانون الأول الماضي.

ثالثا: التسارع الفائق في الالتزام الأيديولوجي بالماركسية الليينية، وانعكاس هذا الالتزام على مسائل العلاقات السياسية، والتثقيف والتنظيم والنشاط العسكري داخل الجبهة الشعبية، الذي تمثل في صدور الإستراتيجية السياسية والتنظيمية الجبهة الشعبية عقب مؤتمر شباط 1969، وهو التقرير الذي يحدد الالتزامات الواضحة للجبهة الشعبية، وكذلك إجراء تطورات ثورية في العلاقات التنظيمية، والنشاط السياسي والعسكري، والشروع في العمل بمدرسة الكوادر التي تتبع برنامجا عسكريا تدريبيا وسياسيا تثقيفيا هو من أعلى المستويات، والأول من نوعه، وجدير بتخريج صفوف من المقاتلين السياسيين في مستوى مهمات العمل الثوري.

على أن ذلك كله ظل مجهولا لغالبية المنتمين للأحداث أمام هجمة إعلامية معاكسة على الجبهة الشعبية قل نظيرها. وقد اشتركت في هذه الهجمة، على قدم المساواة الأنظمة - يمينها ويسارها - وتنظيمات حركة المقاومة - يمينها ووسطها ويسارها - والمؤسسات الحزبية الدولية - ليبراليوها وماركسيوها وتروتسكيوها!.

وفي غمار ذلك جرت عملية تطويق وحصار مذهلة، إلى حد تكفي الإشارة فيه إلى أن «الأهرام» مثلا عند خطف الطائرة الأمريكية نسبت تلك العملية لمنظمة التحرير!، ولم تكن الجبهة الشعبية في موقف يتيح لها التفرغ للرد على هذه الهجمة المعاكسة.

إن نظرة واحدة على طبيعة الهجمة الإعلامية المعاكسة التي وجهت ضد الجبهة الشعبية، ولا تزال، كفيلة أن ترينا أنه يندر إيجاد تهمة لم توجه لها، فهي يمينية، وهي تخريبية هدامة، وهي «سارقة جهود الثوار»، وهي يسارية متطرفة، وهي إقليمية، وهي عروبية، وهي ماركسية فوضوية، وهي قومية شوفيلية، وهي رجعية، وهي ملحدة.

وقد تكررت هذه الاتهامات، وذاق رجالها ولا يزالون طعم السجون في جميع العواصم العربية، ومع ذلك فهي وحدها التي تقود أبرز ما في المقاومة من أمجاد «غزة»، ولها في سجون العدو أكثر من خمسمائة مقاتل، وفقدت أكبر عدد من المسؤولين العسكريين، وهي أكثر تنظيم فلسطيني له قدرة على الضرب في الداخل، وقبل ذلك كله هي التنظيم الفلسطيني الوحيد صاحب الإستراتيجية المعلنة بوضوح، والملتزمة نهائيا بهذه الإستراتيجية في ممارساتها.

بسبب ذلك كله يعطي «اليسار الطفولي» كل وقته تقريبا للعمل على تشويهها، وتفجير الشائعات والاتهامات ضدها. ووسط ذلك كله، تشق الجبهة الشعبية طريقها وهي تزداد وعيا ليس فقط بحجم القوى التي تواجهها، ولكن أيضا بمأزق العمل الوطني الفلسطيني والعربي. لذلك بالذات، تطوع كل جزئيات سلوكها للمهمة الأولى العاجلة والأكثر إلحاحا، وهي العمل على الخروج من هذا المأزق، لمواجهة تلك القوى الهائلة المستنفرة ضد حركة المقاومة الفلسطينية، وهي على قناعة بأن مثل هذه المواجهة - على مستوى المسؤولية - لا يمكن القيام بها إلا من خلال جبهة وطنية فلسطينية هي حلقة في جبهة وطنية عربية. بالتالي، فإن الإغراق في المهاترات هو حرف للتوجه الثوري المطالب أكثر من أي وقت مضى بالعمل الدائب على تحقيق الحد الأدنى من مسؤوليات المعركة.

جرت العادة أن يقع أي بحث نقدي لحركة المقاومة بمرحلتها الراهنة في حقل من الأفخاخ.. إننا لا نتحدث هنا عن الأفخاخ التي تهمينها النظرة الانفعالية أو العصبوية، أو النظرة التي تُغلب متطلبات الحاجة الإعلامية على المنهج النقدي، أو تلك التي تحصر نفسها - طوعا أو مرغمة - بالجزئيات التكتيكية، ولكننا نتحدث عن أفخاخ أكثر خطورة تتعلق بالنهج النقدي الذي يُتبع في قياس حركة المقاومة.

هذا النهج يسقط عادة في «الانتقائية»، ويسقط أيضا في المذهبية الجامدة، وأهم من ذلك كله هو أنه يحل نفسه من الالتزام بالأساس العلمي والموضوعي للعملية النقدية، التي هي جزء لا يتجزأ من العمل الثوري برمته، إذا كانت الثورة - كما هي فعلا - ملزمة قطعا، وبالضرورة، بتفسير العالم وتغييره في آن واحد.

1970*

* كاتب وروائي فلسطيني «1936 - 1972»