من منا يذكر أنه لعشرين أو ثلاثين أو ما فوق كان يمثل نصف الدنيا؟ وأن أباه كان يحتل كل الدنيا؟ وأن جده كان ملك الدنيا، بلا منازع؟ الدلال الذي كان للإنسان أسقط وحل وحش العصر الأمريكية التوتاليتاري. أقبل الفكر. أقبل الشعر. أقبل العلم. أقيلت الأناقة، أقيلت الرهافة أقيلت ظروف الإشراق، أقبل الإنسان.

لماذا يكون لكل خطوة إلى الأمام ثمن ندفعه من أغلى مناطق في كياننا؟

ألكي تتم الحضارة، حين تكتمل، على قبر الإنسان وقد مات كله؟ هذا هو سبب شدي ما أشده من الماضي فيما أنا أسير. هذا سبب توجهي من المستقبل فيما أنا أنظر بغضب وتمزق إلى النقصان والامتقاع، إلى التبغل والتتمسح، إلى العته والبشاعة التي تصيبنا كلما تقدمنا. صحيح أنه لا مفاضلة بين الكوارث ولا بين الجرائم. ولكنه آن أوان القول عاليًا إن الحربين العالميتين اللتين عرفهما هذا القرن، بما فيهما من ويلات وفظائع، قد حجبتهما «شمس» العصر الأمريكي، التوتاليتاري التي تجاوز عهدها السياسي كل الحدود وألغى قواميس السياسة الكلاسيكية والحديثة معًا موحدًا مكانها قاموس المطلق والانتهازية المطلقة والابتزاز المطلق والظلم المطلق والقتل المطلق، وبين قنبلة هيروشيما وناغازاكي الذرية والتضحية بلبنان، مرورًا بسحق أوروبا الشرقية وطرد الفلسطينين من بلادهم، فضلًا عن افتعال الفتن والحروب الأهلية، ناهيك بنشر الاسفاف والضحالة وتعميم الأحادية والتفاهة في الفن والكتابة والأكل والملبس والتخاطب والعلاقات والعادات.

بين تلك وهذه منذ منتصف الأربعينيات إلى اليوم افترسنا الوحش. إن الذين مثلنا ما زالوا يتكلمون كاللغة التي نتكلم، أصبحوا يبدون ملفتين للنظر، أو بالعكس موضع شفقة.

انظروا حولكم تروا هذه الجموع العمياء المهسترة غب الطلب، هذه الملايين من الألغام البلهاء المشعة المسافة إلى الإنتاج، إنتاج موتها وموت كل شيء تراه وتسمعه وتلمسه وتحفه. إن الخلاص رهن القضاء على هذا الوحش، أو تنقيته من أسباب فساده وإفساده، فهل أن ذلك ممكن؟ ولمن؟

سؤال إلى المجهول. لم يسبق للبشرية أن واجهت مصيرًا بهذا الرعب.

الجهل خلاق.

أن يأخذ الكاتب على عاتقه مسؤولية الكلام، مسؤولية اللغة، هو أن يتولى المسؤولية. المسؤولية عمومًا، مسؤولية الحياة والعالم، الإنسان والتاريخ، فاللغة هي كل شيء.

من منا في بلداننا العربية الحائر فيها الإنسان من عقله إلى جسده كل يوم بلا حدود، من منا نحن حملة الأقلام، كما تسمى يستطيع أن يدعي إنه عاش على مستوى مسؤوليته؟ أن يعادل الكلام كرامة الإنسان على الأقل.

من منا في هذه اللغة العربية المعتقلة يستطيع أن يقول صنت لغتي من الكذب والتهرب، حتى لو أكن عبقريًا؟

***

الشعر: الخوف مصروخًا في وجه.

ينتظرك الشعر في موعد ما ليستعير صوتك. ليضيف بصماتك إلى الماضي والمستقبل. لا تحمل تدخلك مؤذيًا ولا تدع أكثر مما كلفت به ولا تفعل شيئًا. من أنت؟ وأن تكون في مستوى ما يختارك..

لا التجديد بل المجدد لا اللغة بل من يكتب. كل محاولات التجديد، شكلًا ومضمونًا، ستظل تسفر عن علم أو تدور على فراغ ما لم تكن مدفوعة بضغط الخلق.

هذه هي مأساة مقلدي التجديد والباحثين عنه في تقلبات الزمن، مع أنه ليس في الخارج، بل في لقاء الهواء بالقلب

عندما أطالع تحليلًا علميًا، نقدًا، معرضًا لفكرة، يحصل معي عكس ما كنت تمنيته من مطالعتها. فبدل أن أخذ منها أعطيها.... ما ليس شعرًا يفقرني دائمًا.

الشعر أمام بعض الجمل أنه حرام أن تكتب إلا وحدها كبيرة، تعلق في السماء، تغيب طويلًا وتشرق في أعيادها..

الجارح أن الصمت لا يستطيع دائمًا وحده التعبير عن الصمت.

كتابة بلا غرق الزجل، ولا رنين الخطابة الكذابة، ولا التأثيرات الصوتية الخارجية والداخلية للبلاغة والبراعة. كتابة بلا «مواكب» غير جوهرها. بلا قرع طبول ولا همس جفون السل الأدبي العاطفي الأشبه بقالب حلوى يسيل دبقًا تحت الشمس. الكلام الجوهري ماس الشعر. وتترك الكتابات الأخرى، حلوها وغليظها، للراغب في مواصلة التمثيل.

1989*

* شاعر وصحفي لبناني «1937 - 2014»