قرأتُ جملة ضمن مقالة للأستاذ مجاهد عبدالمتعالي يصف بها نفسَه بالتحرر من سلطة الجمهور، وطابت لي الجملة؛ لأنَّها متعلقةٌ بحرّية حقيقيّة غير مرئية لأولئك الذين تتماهى أفكارهم وكتاباتهم مع إرادة الجمهور، وكلمة (تتماهى) من الماهيّة أي إنَّ كتاباتهم تأخذ ماهيتها ابتداء من سلطة الجمهور ثم يُفرغ وجودها كاملًا على الورق؛ كأنَّها مَعِدة لفظت ما بداخلها، وهذا التحرر من سلطة الجمهور لا تُشرح لذّتُه بل تُحسّ ممن لا يعرف من الرقباء إلا رقيب الإبداع في ذاته.
بعد هاتين المقدمتين، يمكن لي أن أضيف تقسيمًا للكتابة، يتعلق بالماهية الجماهيرية، أو الوجود الفردي، فالأول مرتبط بالأفكار الشعبوية المكتملة والجاهزة، والكتَّاب يغرفون منها، ويُفرغونها على الورق إما عجزًا عن الإبداع الفردي، أو شهوة لا واعية لسلطةِ الجمهور. أما الوجود الفردي فالكتابة فيه متحركة، تُولد فيها الأفكار كطفلٍ عمره ثوانٍ لن تُعرف ماهيتُه إلا حين يُقال: (مات فلان)، وهكذا الفكرة الإبداعية تكبر -حرةً- حتى تكتمل معمارًا إبداعيًا بالكتابة. وأتذكّر -الآن- همنغواي حين رفض الحديثَ عن روايةٍ يكتبها، بحجةِ أنَّ الكلامَ سهل، وينجم عنه إفساد سير الرواية. هذا المعنى الهمنغوائي لا أذكر سياقَه لكنَّ دماغي أحضرَه وأنا أكتبُ هذه المقالة، وقد تعاملتُ معه على أنَّ همنغواي يَخشى أن يقول كلامًا يُعطي الرواية ماهية مسبقة تُفسد الإبداع.
ومن سلطة الجمهور تُولد سلطةٌ -في قلب الكاتب الجمهوري- تُلغي تعدد القراء، وتحبِسَهم بإرادة مؤشر السوق العام، ويُظنُّ معها أنَّ المتحرر من سلطة الجمهور لا قراء له، بينما هو يندرج بحرّية ضمن علاقة مع متلقين -غير مرصودين أثناء الكتابة- يَحضر منهم من وجد ذاتَه في الإبداع المقروء، ويغيب من لا يجدها؛ وقد يتبادلان الأماكن في مقالةٍ ثانية، فالحاضر يغيب، والغائب يحضر، ويُمكن أن أقتبس مقولة -أظنها لجورج أورويل والتعبير لي- تُبيّن بعض هذه الجدلية يقول: «حين تبتهج في قراءةِ نصٍ ما، فليس مصدر ذلك أنك فَهَمت، بل لأنك فُهِمت». فإذا تعامل الكاتبُ مع المتلقي بهذه الحرية الإبداعيّة المتبادلة، ولم يُلغِ وجوده باسم الجمهور، فإنَّ كتاباته من نوع أن يقفز قارئٌ ما فَرِحًا: «لقد فُهِمت»، ولكن إذا كان الجمهور يُحرك نوع الكتابة باتجاه الوعي المشترك المسبق، فإنَّ الكاتب حينها ناطق رسمي ليس أكثر، ويبدو أنَّه كلما قَلّت لذةُ الكاتب الإبداعية، اقتبس اللذة من ضوء الجمهور.
إذن يُمكن لي أن أقول: إنًّ الكتابة التي -تُسبِّق الوجود على الماهية- هي في منزلة تعاقديّة حرة مع قارئ حر؛ لا يُريد منك أن تسجنه بالمعنى الجمهوري، أو بأي معنى لا يشعر معه أنك حرٌّ حين أمسكت بالقلم أو حتى بالمعنى الذي يسجنه في أضواء الكاتب نفسه، وهذا له دهاليزه، منها ما يتضح سريعًا ومنها ما يَغمض لكنه يتفكّك بالتأمل، كمثل السجن الذي تُنتجه المحاضرات المقامة في الملتقيات كحباتِ الفلفل الأسود حين ينتثر؛ متشابهة وكثيرة، وهي تُصدَّر على أنَّها قراءةٌ لشيءٍ مكتوب مسبقًا، أي إنه حين حضر للملتقى كان يتجهز لقولِ شيء (يُنسب للكتابة) مكتمل الماهية؛ لهذا ظهر لي أنَّ المُحاضِرين لا يَخرجون عن ثلاثِ وسائل: الأولى: أن يُمسِك الورقةَ ويهزها كأنّه يتلو وردًا حفظه. الثانية: أن يتحدث عن المعاني المحدودةِ والواضحةِ التي أرادها في الورقة. الثالثة: أن يأتي للنصِ المكتوب فيُلغي كلَّ الأوجه المتعددة فيه ويُبقي على واحد منها. ويَظهر لي أنَّ صاحبَ الوسيلةِ الأولى ليس بمتحدث، فالحديث مهارة مستقلة عن الكتابة، لهذا هو بمشاركته في الملتقيات يشتهي الحضور الواقعي المرئي الجمهوري، إذ منه يستمد نشاطه ودوافعه على الوجود الثقافي، وصاحب الوسيلة الثانية ليس بكاتب بل متحدث، لهذا يندر أن تجد له ورقة مكتملة الأركان كتابيًا، بل لديه خُطاطة لما يُريد الحديثَ عنه، ومن هذه الخُطاطة تنفتح السِيَر، وهذا المتحدث كطبيب الطوارئ لا يَملك وقتًا لانتظار المعلومات الكاملة، بل يُشخّص بما لديه وقتئذ، وهذا ما يجعل منطلقاته جمهورية، لأنَّ معلوماته المكتملة محصورة بإرادة الواقع الجمهوري، وهكذا طبيب الطوارئ معلوماته الطبية محصورة في إطار الدراسات التي يُحددها منظار المجتمع العلمي، وأما صاحبُ الوسيلةِ الثالثة فهو الذي لديه شهوة سجن المتلقي في سلطةِ معنى واحد، وهذا المعنى إما أن يكون معنى تتحدد به قصديةُ الكاتب مباشرة، وبهذا يكون ألغى أهمية كونه كاتبًا، أو يكون وجهًا من وجوه سلطة الجمهور، لكنّها على مستوى آخر؛ أي أن يلوي عنق الورقة نحو المعنى الذي يُرضي توجه الحاضرين في الملتقى، وهذا قد يعني أنه اكتفى بقولِ ما كان الحاضرون يريدون قولَه، وليس ما تُنتجه الورقة بالفعل.
التفاتة:
الكتابة مشروع يمتد حتى تعي الكتابة ذاتَها.