كلاهما ولد في قرطبة، العاصمة المشرقة للأندلس الإسلامية. وقد ولدا في عائلتين من القضاة (قاضي بالنسبة للمسلمين، حاخام بالنسبة لليهود). الأول ولد عام 1126، والثاني عام 1138 وكلاهما أقام في المغرب الأقصى لفترة من الزمن، فابن رشد أقام في مراكش حيث أصبح تحت رعاية سلطانين من سلاطنة الموحدين: الأول هو أبو يعقوب (1163- 1184)، والثاني هو يعقوب المنصور (1184 -1199).
ومات ابن رشد في مراكش عام 1198. أما ابن ميمون فقد التجأ إلى مدينة فاس عام 1160، ثم إلى القاهرة عام 1165 حيث احتل وظائف كبيرة ومهمة (من بينها زعيم الطائفة اليهودية وطبيب الفاضل ووزير صلاح الدين الأيوبي)، ثم مات عام 1204، أي بعد ست سنوات فقط من موت ابن رشد.
يا لها من علامة على زمن مضى وانقضى أقصد ذلك الزمن الذي كان يولد فيه المرء في عائلة قضاة، ويكون مدعوًا لتطبيق نواميس القانون الديني في مجتمع خاضع كليًا لعقائد أديان الوحي، وأن يكون هو نفسه قاضيًا أو فقيهًا. ثم يمارس في الوقت ذاته العلوم الدنيوية المتجمعة تحت اسم الفلسفة هذا هو الشيء الذي يدهشنا الآن ويثير إعجابنا. والواقع أن المقارعة بين أديان الوحي والتراث الفلسفي الإغريقي تعود إلى فيلون الإسكندري وإلى آباء الكنيسة وقد تزايدت هذه المقارعة وتكثفت في المناخ الإسلامي بدءًا من القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي. فقد كان ابن ميمون ينسب نفسه صراحة إلى الفارابي مات عام 950، ويطلق بعض التحفظات على ابن سينا (1037م) ولكن مع احترامه له وكان يعترف بدينه لابن رشد الذي بعد أن لخص أربعة قرون من البحث الفكري لدى العرب المسلمين وصل بالفلسفة الأرسطو طاليسية إلى أكثر تجلياتها وفاء وإخلاصًا في القرن الثاني عشر الميلادي.
ضمن هذا المنظور التاريخي ينبغي أن نوضح عمل هذين المفكرين اللذين أدعوهما بالوسيطين لأنهما بذلا جهدًا كبيرًا من أجل التوفيق بين الفلسفة العقلانية وظاهرة الوحي، ثم لأنهما ابتدعا لغة فوق لا هوتية أتاحت تواصلًا دائمًا بين الطوائف الدينية الكبرى الثلاثة المتولدة عن الظاهرة الأولية للوحي ذاتها، ولكن المنقسمة والمتضادة بشكل لا مرجوع عنه بسبب هيمنة الأنظمة اللاهوتية التي تنبذ بعضها بعضًا.
ونلاحظ أن المسيحيين واليهود يأنفون حتى اليوم عن الاعتراف بأي مديونية فكرية أو ثقافية للفكر العربي - الإسلامي الكلاسيكي، بل ويصل الأمر باليهود إلى حد إهمال التذكير بأن كل مؤلفات ابن ميمون كانت قد صمّمت وكتبت باللغة العربية نقول ذلك ونحن نعلم أن كتاب السيرة والمؤرخين يذكرون أن ابن ميمون قد اعتنق الإسلام. وحتى لو كان هذا الحدث قد حصل في ظل القسر والإكراه، فإنه ينبغي أن يساعدنا على فهم إمكانيات التواصل الثقافي والانقسامات العقائدية والشعائرية بين الطوائف الدينية في القرون الوسطى
وعلى أي حال فمن المهم أن نشير إلى أن أعمال هذين المفكرين لها علاقة بالفلسفة والعلوم الدينية في آن معًا. إن ابن رشد هو الذي عشق العقلانية الأرسطو طاليسية في شروحاته المكثفة جدًا. وهو إن عشقها خلق الشروط أو الظروف الفكرية الجديدة التي استفاد منها كل من ابن ميمون بالنسبة لليهود والقديس توما الأكويني بالنسبة للكاثوليك. لقد استفادا منها من أجل بلورة أنظمة لاهوتية لم تبطل كليًا حتى يومنا هذا.
1997*
* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»