مسلسل الانقلابات العسكرية الذي تشهده إفريقيا لم يعد يصنّف في خانة الصراع التقليدي على السلطة فحسب، بل يتأكّد أكثر فأكثر أنه جزء من خطط مترابطة بدأت قبل أعوام ويتّضح الآن مغزاها الاستراتيجي في ظل حرب أوكرانيا. وهي تعتمد على اختراق الجيوش وإغراء القادة العسكريين بامتيازات ومكاسب قد يُحرمون منها إذا كان الحكم مدنيًا في أنظمة تصرّ القوى الغربية على أن تكون «ديموقراطية» ويُفترض أن يتولّى العسكريون حمايتها -كما تقتضي الأصول- لكن عدم حصولهم على حصّتهم من الفساد المستشري يشعرهم بالغبن ويفاقم نقمتهم على هذه «الديموقراطية».
تستعد النيجر لدخول النادي «الفاغنري» الروسي، ويدرك العسكريون الصعوبات والتحدّيات التي تنتظرهم داخليًا وخارجيًا ولا يستطيعون تغطيتها بادّعاء أنهم متمسّكون أيضًا بـ «الديموقراطية» لكونها شرطًا للحصول على مساعدات أمريكية وأوروبية. إذ ذهبوا بعيدًا على طريق اللاعودة عن هدف الاستيلاء على السلطة، فلا تلبية لمطالب دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (ايكواس) بل حتى رفض لمواصلة الحوار معها، ولا استجابة لـ «حلٍّ ديبلوماسي» تطرحه الولايات المتحدة للإبقاء على حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم الذي يعتبره الغرب عمومًا حليفًا موثوقًا به، تحديدًا بتوفير التسهيلات التي جعلت من النيجر قاعدة أساسية لمحاربة الإرهاب ومجموعاته المنتشرة في منطقة الساحل الإفريقي (بوكو حرام، فروع تنظيمَي «القاعدة» و«داعش»). والمؤكّد أن الدعم الذي كانت النيجر تتلقاه لم يكن كافيًا لتحسين الوضع الاقتصادي وبلورة تيار شعبي واسع مؤيّد لاستمرار الحكم «الديموقراطي»، خصوصًا أن بازوم ينتمي إلى أقلية الطوارق (9.1% من السكان) ولم يكن فوزه بالرئاسة عام 2021 موضع ارتياح وقبول من جانب الهوسا كبرى المجموعات العرقية (51%).
على الخريطة تبدو النيجر واسطة العقد بين سبع دول موزّعة بين المعسكرين الغربي (نيجيريا وبنين وتشاد) والروسي (الجزائر ومالي وبوركينا فاسو) فيما تنقسم ليبيا بين الاثنين، إذ بقي غربها أقرب إلى الغرب أما شرقها فيشهد وجودًا دائمًا لقوات «فاغنر». وإذا قُدّر للانقلاب النيجري أن يمضي في السيطرة على السلطة، وهذا مرجّح بالتنسيق مع بوركينا ومالي، فإن الخبراء العسكريين يتوقّعون أن تنتقل «العدوى» بأشكال ووتائر متفاوتة إلى دول الجوار، ويعتبرون أن تشاد وتوغو وغانا والسنغال وبنين ونيجيريا وساحل العاج ستكون تحت ضغوط وتهديدات. ثمة قواسم مشتركة بين هذه البلدان تتمثّل بوجود روابط بين قبائل وأعراق موزّعة في ما بينها، وبالتالي وجود قابلية للانشقاقات الداخلية سواء في الأنظمة أو في جيوشها، ومن السهل استغلالها والتلاعب بها.
لم يتأخّر المحللون الغربيون في ترشيح الصين ومبادرتها «الحزام والطريق» لأن تكون أبرز الكاسبين مما يحدث في ما يسمّى «حزام الانقلابات» غربي إفريقيا، خصوصًا أنه يستند إلى عاملَين رئيسَين: الأول، استراتيجية توسّع روسي تعتمد على علاقة قديمة متجدّدة مع الجيوش وعلى وعود تنموية لا سوابق ناجحة لها ومشكوك في إمكان الوفاء بها، إلا إذا ضاعفت بكين استثماراتها للاستفادة من أنشطة روسيا التي ترفع أيضًا شعار مساعدة إفريقيا على التخلّص نهائيًا من الاستعمار الغربي كهدف يمكن أن يتحقق أخيرًا عبر نظام دولي جديد تعتقد موسكو أن تأسيسه بدأ عمليًا بغزو أوكرانيا، وكانت روسيا السوفياتية دعمت بلدانًا إفريقية عديدة في سعيها إلى نيل استقلالها... أما العامل الآخر فهو تشابه الأوضاع الداخلية في معظم بلدان إفريقيا (انقسامات عرقية وأزمات سياسية واقتصادية مزمنة وقلّة موارد ونقص تنمية وفاعلية محدودة للمساعدات الخارجية إمّا لتواضع قيمتها أو لأن الفساد الممأسس يستنزفها).
الحديث عن إنهاء «الاستعمار الغربي» لأنه استغلّ الدول والشعوب أثار بالطبع جدلًا تركّز خصوصًا على «فشل» فرنسا في الحفاظ على نفوذها، مقابل «استعمار شرقي» بات يتمثّل بـ «نجاح» روسيا في اختراق ذلك النفوذ بواسطة العسكر، وجهوزية الصين لأن تكون رديفًا اقتصاديًا له. وفيما تحاول الولايات المتحدة تأمين وجود مستمرٍ لها في القارة السمراء، فإنها تواجه إشكالية «كونغرسية» صعبة في التعامل مع دول ذات سلطات غير منتخبة ومؤسسات يسيطر عليها العسكر، وهذه إشكالية لا تحرج موسكو وبكين بل تسهّل لهما المهمة. وما يلفت في هذا الجدل أن إيران أكثر المتحمسين له، معتبرةً أن «الاستعمار الشرقي» الزاحف في إفريقيا (ميليشيا «فاغنر» تنشط حاليًا في تسعة بلدان قد تصبح عشرة مع النيجر) يعزّز نهجها بتسليح الميليشيات المحلية والاعتماد عليها في مشاريع احتلال/ استعمار لأربعة بلدان عربية قد تصبح خمسة إذا سيطرت ميليشياتها على كامل فلسطين.
عدا تقليص النفوذ الفرنسي، والغربي عمومًا، وانعكاسه على مئات المشاريع التي أنشأها ويواصل تشغيلها بشراكات متعددة الجنسية مستندة إلى وجود «دولة قانون»، لا يبدو الانقلاب العسكري مرشحًا فقط لزعزعة الاستقرار لفترة طويلة في النيجر، بل إنه قد يتسبب بتشققات في الاتحاد الإفريقي نفسه انطلاقًا من الخلاف داخل مجموعة «ايكواس» على العقوبات الموجعة التي فرضتها (الحدود الجنوبية المشتركة مع نيجيريا وبنين هي عصب التجارة في النيجر، ونيجيريا قطعت إمدادات الكهرباء عنها وتتزعم حملة «ايكواس» ضد الانقلاب). لكن الخلاف الأكبر يتعلّق بقرار المجموعة التدخل العسكري «لإنهاء الانقلاب وإعادة الحكم الديموقراطي». سبق أن حصلت تدخّلات إفريقية ضد انقلابات في غامبيا وغينيا بيساو وسيراليون وساحل العاج ومالي، لكن ظروفها كانت مختلفة ونجاحاتها متفاوتة، والأهم أن بُنى العمليات الروسية «الفاغنرية» لم تكن ترسّخت بعد، كما أن روسيا نفسها لم تكن متورّطة في حرب مكلفة كما في أوكرانيا. هذه المرّة قد يؤدّي التدخّل في النيجر إلى أكثر من حرب في إفريقيا.
*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»