نحن رجال وهم رجال، يؤثر هذا القول عن أبي حنيفة، وهذا القول خاتمة عبارة طويلة مفادها، أن ما جاء عن الله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الرسول فسمعًا وطاعة، وما جاء عن الصحابة تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، وكما نعرف فقد استعيدت هذه العبارة مرارًا وتكرارًا إما معها أو ضدها، وفي الضد منها يرى أحد المعاصرين أنها أصبحت مطية يركبها من يريد أن يرد أقوال الأئمة المتقدمين، والسلف الصالحين بلا حجة أو برهان، ويتكئ عليها من يريد أن يمرر آراءه الشاذة، وأقواله الضعيفة، واختياراته الضعيفة، ومن يريد أن يظهر نفسه على حساب أئمة العلم والدين.

من هذه الزاوية نادرًا ما يبدي الدعاة رأيهم في ما اقتبسوه علمًا أن وعظهم يتكون في معظمه من اقتباسات من القدماء الدينية والتاريخية، ويبقى السؤال الذي من حقنا أن نطرحه لماذا يقتبس الدعاة من كلام القدماء؟ أليس هؤلاء الدعاة رجالًا مثلما هم القدماء رجال؟

يقتبس الدعاة لكي يقنعوا الناس بأنهم يقولون الحق، ويدلون الناس إلى الحقيقة، يقتبس هؤلاء من المعرفة الدينية القديمة، ومن التاريخ القديم ما هو فعال ومؤثر، ويروجون باقتباسهم أفكارًا فعالة لكل منهم، منها ما يخصه، يريد الدعاة أن يحققوا منفعة سريعة ومؤقتة، فهم يرون أن ما يقتبسونه يلخص المعرفة الدينية، ويفضلون أن يرتاحوا من قراءة المدونة الدينية، فيكتفون بما يقتبسونه. وبمقدوري التوكيد هنا على أن هؤلاء المقتبسين لو أنهم استوعبوا أن معرفة القدماء الدينية لوجدوا أنها ليست أكثر من تأويلات للنصوص، وبذلك تفقد جاذبيتها، وصلاحيتها التاريخية، وبودي أن أقول إن هذا هو معنى (هم رجال ونحن رجال) والمعنى أن المعاصرين يمكن أن ينتجوا معرفة مثلما أنتج القدماء.

2

يشكل الاقتباس شكلًا من أشكال الإزاحة، وبما أنه أداة بلاغية فيمكن لأي داعية أن يكيّف الاقتباس، ويدمجه، ويزيفه، فالاقتباس يراكم، ويحمي ويخضع، وهو يذكّر بأن كتابة أخرى تعمل على إزاحة الكتابة الحالية (إدوارد سعيد). من هذا المنظور فالاقتباس إزاحة من الداعية لمعرفة من المفترض أن تنتمي إلى الحاضر لتحل محلها معرفة تنتمي إلى الماضي، هكذا إذًا يحل القدماء محل الدعاة المعاصرين، وتزيح نصوص القدماء نصوص المعاصرين، يصبح الداعية المعاصر بلا شخصية، يقتبس الدعاة لكي يسبغوا الهيبة على المعرفة القديمة، قد يقتبسون ليفسروا وجهة نظر، لكن اقتباسهم يعني أنهم غير قادرين على أن يوضحوا الأمور للناس من دون عكاز من الماضي يخفي عجزهم، قد يسوّق الدعاة بالاقتباس الحجج والبراهين، وهذا يعني أنهم غير قادرين على أن يكونوا أصحاب حجة وبرهان من دون مساعدة من القدماء، قد يحولون كلام القدماء ليستخدموه، لكن خلف هذا الاستخدام تكمن قوة القدماء وضعف الدعاة المقتبسين، فهم يسبغون بالاقتباس من القدماء بريقًا على خفوتهم الشخصي، وهيبة للقدماء مقابل ضعفهم، قد يتخذ اقتباسهم معنى جديدًا من المعاني المعزولة التي لا تحيل إلى المعنى الأصلي الذي يحمله النص قبل الاقتباس على حد قول غاربر في مقالة له عن الاقتباس.

3

أريد أن أخضع اقتباس الدعاة إلى مزيد من المساءلة؛ فالإشكالية الكبرى هي من الذي يتحدث حين يضع الداعية حديث القدماء بين قوسين إما كتابة أو باستخدام السبابتين في الهواء دلالة على الاقتباس؟ من الذي يتكلم، الدعاة المعاصرون أم القدماء؟ يكمن الالتباس هنا في نوايا الدعاة، فهم يسعون إلى أن يقنعوا القارئ أو السامع بما لا يعود إليهم؛ فما يقتبسونه غير مولود بولادتهم، وزمنه ليس زمنهم. يستخدم هؤلاء الاقتباس بالقدر الذي يستخدمهم الاقتباس. يقتبسان من أجل آخر هو القارئ أو السامع سواء أكان حقيقيًا أم خياليًا، لكنهم ليسوا أنفسهم؛ لأن الاقتباس ليس لهم، لا يكتمل معنى الاقتباس إلا بالآخر، فلا أحد يقتبس لنفسه، تكمن مشكلة الاقتباس في أن الدعاة والوعاظ المعاصرين لا يمتلكون ما يقتبسونه من القدماء، وبالتالي فهم لا يستطيعون أن يعرضوا أفكارهم إلا في الحالة التي لا يملكون فيها شيئًا، فاقتباسهم يعني أن يستبدلوا ذواتهم بذلك الذي اقتبسوا منه، لقد استغرق الدعاة المقتبسون القرن العشرين كاملًا، وهم يفترضون بأن الاقتباسات من القدماء سوف تحل مشكلاتنا، لكن التحدي الذي يثير الدهشة فعلًا، وفي الوقت ذاته الأقل نقاشًا بين هؤلاء الدعاة هو ما إذا حلّت نصوص القدماء التي اقتبسوها مشكلات عصور القدماء، لكي يستعين بها الدعاة المعاصرون لحل مشكلات عصرنا، فأنظمة الفكر لا تأتي من الكتب، وهناك مخيال اجتماعي يجب أن يجد طريقه إلى الحياة اليومية، واستعارة نظام فكري قديم لحل مشكلات جديدة، يعني أنه لا مشكلات جديدة في واقعنا المعاصر، وعندما يقتبس الدعاة المعاصرون من القدماء ليسلطوا الأضواء على مشروع كالإصلاح الديني مثلًا، أو لأي مشروع كان، فإن هذا يخلق وهمًا بأن محتوى مشاريعهم بالغ الثراء حتى أنه أثرى مما هو عليه في الواقع، وهذا ما حدث فعلًا؛ فالمشاريع التي عاد أصحابها من الدعاة إلى القدماء مقتبسين إما لدعم مشاريعهم أو لشطب مشاريع أخرى خلقت وهمًا عند أفراد المجتمع بأنها مشاريع ثرية، لكن ما حدث أنها لم تكن أكثر من مشاريع لاستقطاب الناس والدليل على ذلك أن هؤلاء وأولئك منذ أكثر من قرن من الزمان وهم يقتبسون من القدماء إما لدعم مشروع أو لهدمه، وما زال حالنا مثلما هو.

4

هناك خطورة قصوى حين يغدو الاقتباس من القدماء مألوفًا ومكررًا إلى حد يتحول فيه الاقتباس إلى مبدأ، لقد سمعت عبارات من هذه العبارات المقتبسة تحولت إلى مبادئ دعم نفسية هائلة، الاقتباسات كثيرة سأكتفي منها بعبارة واحدة، وقد تحولت إلى مبدأ يستند إليه عشرات الأفراد من المنتسبين إلى تنظيمات جهادية وهي: «ماذا يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من البلد سياحة».

يجب ألا نقلل من أهمية الاقتباسات، ولا من مدى الخطورة التي يمكن أن تترتب عليها حين تتحول إلى مبادئ، وأظن أن القارئ الذي خبر ماضينا القريب يعرف مدى تركيز الدعاة والوعاظ والمذكرين على سجن يوسف، والحكمة من سجنه، وكيف كان سجنه تطهيرًا ليخرج بعدها معززًا مكرمًا، أكثر من ذلك يعرف القارئ المتابع ما حدث في مصر، وكيف شبهوا محمد مرسي بيوسف فهما متشابهان، سجنًا وخروجًا، لكي يكونا على غلة مصر، هذا مجرد مثل لما يمكن أن تكون عليه الاقتباسات باعتبارها خطابًا يمكن أن ندرسه ونحلله من جوانب متعددة، ومن المؤسف أنني لا أعرف دراسة واحدة، ولو عند مستوى أدنى من التحليل لاقتباسات جماعات الإسلام السياسي، في الواقع نحن نحكي فقط. نتحدث عن أفكار عامة، وعن ملاحظات عابرة، وما أراه هو أننا إذا أردنا أن نكون أقوى، فيجب أن نعرف لا أن نحكي.