1

نخطئ الطريق حين نقول (لا) أو (نعم) لكل إنتاج فكري أو ديني لأحد المفكرين أو العلماء إلى ما يمكن أن يكون عنصرًا بناءً فيما أنتجه. وإذا لم تكن هناك قراءة بريئة بأي حال من الأحوال؛ فسأحدد ما أريد قوله عن هذا النوع من القراءة الآثمة. يتعلق الأمر بقراء ابن تيمية. فعلى امتداد القرن العشرين وإلى الآن هناك قراءتان لابن تيمية. القراءة الأولى هي قراءة كارهيه، وتختزله في العنف والتطرف والإرهاب، ويمكن القول لهؤلاء القراء الكارهين إن جذور ابن تيمية تمتد بعمق داخل الإسلام الذي يشكل الإنسان جوهره الأساسي، ولا بد من أن جزءًا من إنسانية الإنسان ما زال موجودًا فيه؛ لأنه إنسان، ولأنه مسلم. فالمحبة عنده قوة حية إنسانية تجد غايتها الوحيدة في الله، وهي ترادف عبادة الله. والقراءة الثانية هي قراءة محبيه التي لا تختلف عن قراءة كارهيه للنصوص ذاتها، كتسويغ الثورة، وقتال أهل القبلة، وقتل المرتد، والتضييق على الناس ومراقبة سلوكهم، وتكفير المجتمع. ويمكن القول لهؤلاء القراء المحبين إن ابن تيمية قال قولًا لم يقله أي عالم على الإطلاق. وأنهم هم أنفسهم لا يستطيعون أن يقولوه. وهو قول ابن تيمية أن على المؤمن أن يتقي الله في الناس وليس عليه هدايتهم. وأن الدول العادلة تبقى مع عدم تدينها، وأن الدول الظالمة تنهار حتى لو أنها تدين بالإسلام، وأن حاكم الدولة ليس شرطًا أن يكون حاكمًا متدينًا. والشرط أن يكون عادلًا.

يوجد في هاتين القراءتين ما يمكن أن نسميه حالة استقطاب المعتقدات؛ والمعنى لا علاقة له بالمعتقد بالمفهوم الديني، إنما له علاقة بخلفية القراء الفكرية، وفرضياتها ومسلماتها، وميولها واتجاهاتها، فقد تكون هذه المعتقدات مختلفة بين القراء حتى وهم يواجهون النصوص ذاتها، لذلك يؤولونها تأويلات مختلفة، فقراء ابن تيمية المحبون والكارهون يستدعون النصوص ذاتها، لكنهم يؤولونها بشكل مختلف. ويمكن القول لهؤلاء ولأولئك إن كل قراءة هي بالضرورة قراءة غير بريئة وقراءة آثمة. لذلك فلا أقل من أن يكون هذا النوع من القراءة غير البريئة حاضرًا في الذهن عند قراءة كتب ابن تيمية لمراقبتها. فاستدعاء النصوص التي أنتجها إنسان على أنها الفصل في مشكلة ما قد تتحول إلى نصوص قمعية، وربما تتحول إلى نصوص عنيفة.

2

من قرأ رسالة ابن تيمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيعرف أنه يعقلن العمل السياسي، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من أنواع المشورة للفعل السياسي. فما دام العمل يقتضي أن يسعى في مصلحة الناس وأن يحققوا العدل بينهم، فإن ابن تيمية يدفع في رسالته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحو هذا المجتمع العادل، وليس نحو المجتمع المتدين كما قد يفهم القارئ. فالأصل في العمل عند ابن تيمية هو العدل، ولا غضاضة عنده من ارتكاب الآثام في ظل نظام عادل، لأنه ينظر إلى المجتمع من وجهة نظر اجتماعية. أي أن هناك احتمالًا لمعاصي البشر وآثامهم وشرورهم، مثلما هناك احتمال لخير البشر وصلاحهم. فالمجتمع عند ابن تيمية في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحديدًا مكون من هؤلاء وأولئك.

في المقابل لا أهمية عند ابن تيمية لمجتمع يخلو من الآثام والمعاصي، والنتيجة التي ينتهي إليها ابن تيمية مفاجأة مدوية إذا ما فهمت ابن تيمية حقًا فهو يكاد يقول إن الدولة لن تدخل الجنة ولن تدخل النار، وإن الدولة دنيوية لكن الدين إلهي. الدين علاقة بين المسلم وبين الله، ولا دخل للدولة في مراقبة دينه، فوظيفتها خدمة الناس، حيث يمثل العدل جوهر وظيفة الدولة.

3

ليس دور الإسلام في رسالة ابن تيمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دور الخطاب الديني، بل دور الممارسة. أي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجانب الواقعي من الإسلام، وهما أي الأمر والنهي الممارسة التي تحقّق الإسلام.

إن الشرط الأول عند ابن تيمية لهذه الممارسة هذا الجانب الواقعي من الإسلام؛ أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أن على المؤمن حاكمًا أو محكومًا «أن يتقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم». والمعنى لا بد من أن تكون هناك مصلحة للحاكم والمحكوم في هذا الجانب الواقعي من الإسلام. فلو ترتب مثلًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من المصلحة فهذا ليس «مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب، وفُعل محرّم». لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند ابن تيمية إلا لمصلحة، وهذه المصلحة لا ترتبط بالفرد حاكمًا أو محكومًا، بل ترتبط بالمصالح والمفاسد العامة وهاتان هما اللتان تقدرهما الشريعة. وهكذا يعين ابن تيمية الدور النقدي الذي أُنيط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الأصل عند ابن تيمية هو أن على المؤمن أن يتقي الله في عباد الله، ورعاية مصالح العباد من تقوى الله، فقد يكون النهي عن المنكر صدًا عن ذكر الله، وسعيًا في زوال طاعته، وطاعة نبيه، وزوال الحسنات. يحدث هذا حين ينتج عن النهي عن المنكر تفويت معروف أعظم منه.

4

هناك نتائج مهمة لهذا الشرط. فبما أن على المؤمن أن يتقي الله في عباد الله، فلا يمكن أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنفًا. لكن إذا كان ذلك كذلك أي أن الأمر والنهي ليس بالعنف فكيف يمكن أن نعرف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ إنها مسألة مهمة عند ابن تيمية، فلا بد عنده من الرفق والصبر والحلم، «فإن لم يحلم ويصبر يفسد أكثر مما يصلح. ولا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده. وإن كان كل من الثلاثة لا بد أن يكون مستصحبًا في كل الأحوال». ويبدو لي أن هذه الشروط الثلاثة هي التي تجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلنة للعمل السياسي، وليس مراقبة سلوك الناس الديني.

يرى ابن تيمية أن ترويض النفس مهمة شاقة وعسيرة، لكن لا بد منها. فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون فقيهًا فيما يأمر به، وفقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، ورفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، وحليمًا فيما ينهى عنه». ولْيُعلم أن اشتراط هذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب الصعوبة، وهكذا فالمهم هنا هو أن ابن تيمية يبين كم هو التكوين الأخلاقي ضروري للحاكمين والمحكومين.