لم يحشد اللاجئ العراقي سلوان موميكا متظاهرين إلى جانبه في ستوكهولم، بل احتشدت الشرطة لتأمينه، بعدما رخصت له مرتين لإهانة كتاب المسلمين كـ«تعبير عن رأي» يحترمه القانون السويدي ويقدسه أكثر مما يحترم أي مقدس، بحكم أن الدولة ديمقراطية- علمانية ومجتمعها غير متدين، لكن يمينها الحاكم بما فيه المتطرف برهن الآن أنه يعادي الإسلام، ليس فقط انطلاقاً من لا دينيته بل استناداً إلى فكرة أن وجود الإسلام لا يتناسب مع مجتمع مسيحي. موميكا مجرد فرد قد يكون هناك عرب كثيرون مماثلون له، وقد ظهر عديد منهم في أحزاب أوروبا المتطرفة، وآخر النماذج السياسي الفرنسي من أصل مصري جان مسيحة الذي أطلق حملة تبرعات لعائلة الشرطي الذي قتل الشاب الفرنسي من أصل جزائري نائل المرزوقي وتسبب باضطرابات استمرت أياماً في باريس ومدن أخرى، لكن أحداً في حكومة ستوكهولم لم يصف موميكا بأنه «أحمق متطرف» آخر أو أن هدفه الوحيد هو إثارة النعرات وبث الكراهية وتنفيس حقد شخصي.
في مختلف وقائع الحرق لم تظهر السلطات السويدية مقنعة في تبرير «حيادها» أو معنية بالنظر إلى أبعد من مجرد احترام «حرية التعبير»، إلى النتائج التي قد تترتب على الترخيص العلني بحرق القرآن، وإلى ردود الفعل لدى من أراد سلوان الأحمق إهانتهم واستفزازهم سواء في السويد أو خارجها، تحديداً في العراق. وما دام القانون ناظماً تقنياً، والترخيص مناطاً بالشرطة تطبيقاً لهذا القانون بمعزل عن أي تقدير سياسي حيث لا وزارة داخلية، بل إن المحاكم تجيز الترخيص- «تقنياً» أيضاً باسم «حرية التعبير- حتى عندما لا توافق الشرطة عليه، فهذا يعني بالضرورة أن هناك مشكلة إما في القانون نفسه أو في رعونة تطبيقه. لا جدال في أن اقتحام السفارة السويدية وإحراقها في بغداد»غير مقبول«، ومع أنه لم يتم بـ»ترخيص«من السلطة العراقية، إلا أنه رد فعل على فعل ما كان يجب الترخيص له لأنه بادي الأذى والإضرار المعنويين. وربما لو لم تحرق السفارة، وبخاصة لو لم يلغ ترخيص العمل لشركة»إريكسون«في العراق لما أقدم كريسترسون على الدعوة إلى الهدوء و»التفكر«، فاليمين- العلماني لا»يقدس«سوى الأعمال ولا تسيئه سوى الخسائر حتى لو كانت محدودة.
السويد، المتأطلسة لتوها، بفضل براجماتية مستعادة في تركيا، تجد نفسها مربكة بين فردين مهووسين: بالودان وموميكا. الأول نتاج لوثة الربط بين الهجرة والإسلام التي تجتاح أوروبا بدفع من اليمين المتطرف. الهجرة التي تختزل بها الأزمات الاقتصادية حالياً، والإسلام الذي اختزل أولاً بتنظيمي»القاعدة«ثم»داعش«إلى أن صارت الإسلاموفوبيا الاسم المرادف لـ»أزمة الهوية«في أوروبا. ليس صدفة أن يقارن بعض من المحللين بين بالودان والنرويجي أندرس بيرينغ بريفيك الذي ارتكب مجزرتين (22 يوليو 2011) مستهدفاً أولاً مبنى حكومياً (كان رئيس الوزراء آنذاك ينس ستولتنبرج- الأمين العام لـ»الناتو«حالياً)، ثم مخيماً شبابيا، وبلغت الحصيلة الدموية 77 قتيلاً ومئات الجرحى. تبين لاحقاً أن بريفيك كان حانقاً على سياسات الهجرة ومتأثراً بكتابات اليمين المتطرف ومعجباً بممارسات قوة الاحتلال الإسرائيلية. لعل المقارنة تعزى إلى أن بالودان متأثر بمسار»الثقافة«ذاتها، ومع أنه لم يقتل بعد إلا أن نشاطه العنصري في الأحياء التي يقطنها المهاجرون والخطاب الذي يتعمد فيه إهانة الإسلام والسود، مهاجماً ما يعتبره»أيديولوجية شريرة«، إنما يمهدان للأسوأ.
بشكل أو بآخر يبدو الثاني، موميكا، وكأنه تعلم من بالودان، فكلاهما يعمل في المساحة الغامضة التي تتركها»حرية التعبير«في القانون فليس كل السويديين أو الدنماركيين أو النرويجيين يستخدمون تلك الحرية لإهانة الآخرين، وكلاهما لديه حمولة حقد يوظفها للفت الأنظار اليه. وهذا يظهر خصوصاً في أداء موميكا حتى قبل لجوئه إلى السويد. ففي العراق يجمع عارفوه على أنه»شخص متقلب وغير سوي«، ولا شك أن نتاج»عراق الميليشيات«، وكمسيحي سرياني صعقته صدمة سيطرة»داعش«على مسقط رأسه في الحمدانية (نينوى) وما ارتكبه التنظيم من جرائم واضطهاد في حق المسيحيين والإيزيديين وسواهم. لذلك أصبح موميكا»ملحداً«، معلناً ذلك مراراً، إذ وصف نفسه في السويد بأنه»ليبرالي علماني ملحد«متوجاً ذلك بانتمائه إلى»ديمقراطيي السويد«الذي استقطب بالودان، إضافة إلى عشرات السويديين من أصول إيرانية.
كان لافتاً إلى أن وزارة الاستخبارات الإيرانية انفردت (وكالة»مهر«10.05.2023)، بكشف عن أن موميكا»عمل في خدمة الموساد في عام 2019«وربطت بين حرقه المصحف و»قمع النظام الصهيوني المقاومة المشروعة«في الضفة الغربية. قاد سلوان فصيلاً مسلحاً سمي»قوات صقور السريان«لمحاربة»داعش«وأسس حزب»الاتحاد السرياني الديمقراطي«وترأسه لأربعة أعوام. ووفقاً لموقع»روداو«فإنه كان يعارض هيمنة»الحشد الشعبي«وفصائل مسيحية مسلحة على المناطق المسيحية ما تسبب باشتباكات بين فصيله وفصيل»بابليون«التابعة لريان الكلداني فاعتقله»الحشد«بعدها لمدة 18 يوماً. ويذكر أن فصيل»بابليون«المسيحي المرتبط بـ»الحشد«هو حالياً محور أزمة بين حكومة بغداد وبطريرك الكلدان الكاثوليك الكاردينال لويس روفائيل ساكو الذي اضطر للانتقال إلى كردستان، فـ»الحشد«يزكي ريان الكلداني (مدرج في لائحة العقوبات الأميركية) ليكون مرجع الطائفة الكلدانية في العراق. وبالعودة إلى موميكا، فالمعروف أنه على خلاف مع أسرته، ولذلك أعلن والده صباح متي الموجود في ألمانيا براءته منه. وقال في مقطع فيديو:»يجب أن يأخذ الإسلام حقه منك بعد حرقك للمصحف الشريف، ولو كان هناك شريف فلن يبقيك على قيد الحياة«.
* ينشر تزامناً مع موقع»النهار العربي»