كل الكوارث الطبيعية تضع العالم في اختبارات عدّة، منها التحدّي العلمي لتشخيص ما يحصل واكتشاف أي وسيلة لاستباقه، ومنها الواجب الإنساني المباشر الذي يحاول أن يلبّيه بحسب الاحتياجات المعلنة من جانب البلد المنكوب، ومن دون أي اعتبارات سياسية. هذا ما حصل في الإقبال على مساعدة تركيا على الرغم من الجدل الذي تثيره شخصية رجب طيب أردوغان وسياساته، فالمعيار الأساسي للحظة هو المساهمة في إنقاذ الأرواح وتأكيد التضامن الدولي. لكن الأمر اختلف مع سوريا، بسبب بشار الأسد وأداء نظامه، من لحظة الزلزال وخلال الأيام التي تلته.

كان الفارق كبيرًا بين وجود أردوغان في مناطق مركز الزلزال بعد يوم من حدوثه إذ بدا واجمًا مهمومًا محاولًا الإجابة عما يتوقعه مواطنوه منه، وبين زيارة رئيس النظام لحلب إحدى المناطق الأكثر تضرّرًا إذ كان الأسد ضاحكًا ومقبلًا على التقاط صور «السيلفي» مع المحتشدين كما لو أنه في رحلة سياحية، وكان جاهزًا لثرثرته المعتادة عن «الصمود والمواجهة والتمسّك بالقيم والمبادئ والسيادة» وليس عن واجبات «دولته» في مواجهة الكارثة. وعلى ذكر «السيادة» فقد سبقه «والي حلب» الإيراني إسماعيل قاآني إلى تفقّد المنطقة.

لا بد أن أردوغان استشعر مع الزلزال اهتزاز عهده وربما نهايته، مع اقتراب انتخابات حرجة له ولحزبه، فالصدمة والأحزان وتشرّد ملايين الناس يمكن أن تغيّر أمزجة الناخبين تجاهه حتى لو لم يكن له أو لحزبه ذنب في غضب الأرض. ولا يستطيع الرئيس التركي الحالي نسيان أن زلزالًا في 1999 تسبّب، بين عناصر أخرى، بإنهاء عهد رئيس سابق هو بولنت أجاويد. ومع ذلك كان واضحًا لدى أردوغان وأركان حكومته، منذ اللحظة الأولى، أن الأولوية الراهنة هي لتجنيد كل الإمكانات في مواجهة الكارثة وانعكاساتها على اقتصاد كان مترنّحًا، ومن ثمّ التهيّؤ لتحديات ما بعدها، فحتى لو سلّموا بأن «قدريةً» ما ضربت تركيا وعطّلت جانبًا كبيرًا من البنية التحتية الضرورية لعمليات الإنقاذ والإغاثة، تبقى هناك واجبات على الدولة وينبغي أن تكون على مستواها. لكنها، مع ذلك، في حاجةٍ إلى مساعدات خارجية.

في سوريا كانت هناك ثلاث مشاكل رئيسية في التعامل مع الكارثة: نقص الإمكانات اللوجستية، نقص الإرادة عند النظام، ونقص/ أو بالأحرى انعدام الوسائل في مناطق المعارضة. ولما كانت الأيام الأولى بعد الزلزال هي المحكّ في إنقاذ الأرواح فإن الوضع الإنساني واجه حقيقة أن البلد بشطريه وظّف كل شيء في الاقتتال وكان واقعيًا في كارثة ثم وجد أن عليه أن يتعامل مع كارثة مستجدّة بهذه الضخامة. في مناطق النظام تساءل المواطنون خصوصًا عن ضعف الاستجابة للحدث فهناك معدّات لدى قوات النظام لم تظهر، وهناك هيئات، مثل «مؤسسة العرين» التي تشرف عليها أسماء الأسد (حلّت محل «مؤسسة البستان» لرامي مخلوف)، أبلغت المراجعين في جبلة وريف حماة واللاذقية (مناطق علوية متضرّرة) أن ليس لديها ما تقدّمه «بسبب العقوبات». أما في مناطق المعارضة التي حرص الطيران الروسي والنظامي طوال أعوام على تدمير مستشفياتها ومراكزها الطبّية، فلم يترك لـ «الخوذ البيضاء» سوى أيدي مسعفيها وجهدهم البشري بلا أي معدّات مساعدة في انتشال العالقين تحت الأنقاض.

اهتم إعلام النظام بإبراز الاتصالات العربية التي تلقاها الأسد للتعزية والإبلاغ عن مساعدات آتية، أكثر مما سلّط الضوء على معاناة الناس. لم تعنِ التعزية شيئًا للأسد، ولا المساعدات، إذ كان يترقّب اتصالات أخرى من دول تعزّز «شرعيته». لم يعلن الحداد، لم يرَ لزامًا أن عليه (أو حتى على مستشارته إياها) أن يخرج بخطاب مختلف، ولم يؤذن للحكومة إلا بعد أيام بإصدار بيان عن وجود «مناطق منكوبة»، إذ كان المنطق السائد أن البلد منكوب أصلًا ولو من دون اعتراف النظام، وأن موت الآلاف تحت الأنقاض إنما يضاف إلى قائمة الموت المتزايدة منذ اثني عشر عامًا، وأن الناس «تعوّدوا» بل إن العالم اعتاد على أن سوريا أرض للموت.

لم يُضِع النظام وقته بل بنت حلقته الضيقة، منذ اللحظات الأولى، خطة لاستغلال الزلزال كـ «فرصة ذهبية» للتخلّص من العقوبات، فالحجّة الجاهزة، والمحقّة (؟)، أن الكارثة تجبّ ما قبلها، وأن الزلزال قدرٌ لكن العقوبات سلاح سياسي يجب أن يُرفع وإلا فإن فارضيها يصبحون مسؤولين عن تفاقم الكارثة. تناسى النظام الأسباب التي فرضت العقوبات لأجلها أما المجتمع الدولي فلم ينسَ. حاول إعلام النظام، بمؤازرة من هيئات كنسية مسيحية، وبيانات لدكاكين سياسية لبنانية تابعة له مباشرة أو للمحور الإيراني، تكبير صورة مفادها أن العقوبات تمنعه من إنقاذ الأرواح وإغاثة المتضرّرين. أيقن المعنيون في الخارج سريعًا أن نظام الأسد مصممٌ على تسييس الزلزال، لكنهم كانوا يعلمون أيضًا أنه من جهة لم يبذل قدراته كما فعلت أنقرة، ومن جهة أخرى يضغط لإعادة تعويم نفسه. هذا لم يمنع الاتحاد الأوروبي ثم الإدارة الأمريكية من إصدار تذكير بأن العقوبات تتضمّن استثناءات تسهّل التعامل مع الأوضاع الإنسانية ولو بشروط.

بكثير من الصعوبة وبعد مفاوضات طويلة وافق النظام على أن يتولّى الصليب الأحمر الدولي مع الهلال الأحمر السوري تنسيق أعمال الإغاثة للمناطق السورية كافة، ريثما تتمكن منظمات الأمم المتحدة من استكمال بناء قدراتها. غير أن ما أراده الأسد فعلًا جاء في تصريحات رجل الأعمال رئيس الهلال الأحمر خالد حبوباتي الذي عرض زيارة لندن وواشنطن للتعاقد على مساعدات وفتح صفحة جديدة خارج العقوبات. لم تُستجب هذه المبادرة بل إن وسائل التواصل الاجتماعي المحلية كانت لاذعة في التذكير بأن «الهلال» مؤسسة تابعة للنظام، كما في انتقاده رئيسها ودعوته إلى أن يتهيّب الحدث الجلل وأن يبادر مثلًا إلى إلغاء احتفالات «عيد فالنتين» في فندقه الدمشقي المعروف.

لم تتأخر أجهزة النظام بإعلان «الانتصار» و«كسر العقوبات» بعد صدور الاستثناءات الأمريكية والأوروبية التي كانت قبل الزلزال وبعده تتيح شراء كل ما يلزم لأعمال الإغاثة والطبابة، إلا أنها تمنع إقحام أشخاص أو كيانات واقعة تحت العقوبات من إبرام أي عقود. لكن الخارجية السورية ما لبثت أن أعلنت أن هذه الاستثناءات «مضلّلة»، وعلى الرغم من أن وزيرها اعترف سابقًا بأن العقوبات لا تشمل معالجة الأوضاع الإنسانية إلا أن التعليمات كانت تقضي بالتركيز على رفع العقوبات لإنعاش النظام. لم يتحقق هذا الهدف، ولو أن النظام انتهز المصاب الزلزالي لتغيير خطابه وسلوكه لأمكن التفكير في مراجعة العقوبات. ما حصل هو العكس إذ النظام أظهر حقيقته.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي