الإشارات المتكاثرة إلى تغيير استراتيجي تجاه إيران ما كانت لتكتسب جدية لو لم يكن فيها عنصر أمريكي حيوي. لم تأخذ إيران التحذيرات الأمريكية - الإسرائيلية المتكررة بمنعها من امتلاك سلاح نووي على محمل الجد، وتعاملت بتحايل وعدم اكتراث مع التحذيرات الغربية من توفيرها طائرات مسيرة وصواريخ باليستية لروسيا، لكنها مضطرة الآن لمراجعة حساباتها، إلا إذا كان الأوان قد فات. حتى داخل إيران كان هناك من يرى أن الانحياز إلى الغزو الروسي لأوكرانيا ينطوي على خطأ وإن كان ينسجم مع منطق عقيدة نظام الملالي المعادية غريزياً للغرب، أو يشكل مساهمة في إضعاف الولايات المتحدة وطردها من غرب آسيا كهدف إيراني معلن.

يكمن التغيير الاستراتيجي في أن إدارة جو بايدن لم تعد متمسكة بمهادنة إيران لترغيبها بإحياء الاتفاق النووي، إذ لم تعد الأولوية للشأن النووي الإيراني، بل للشأن الأوكراني والعالمي، والهدف الغربي المعلن هو عدم تمكين فلاديمير بوتين من الانتصار إذا لم تكن هزيمته ممكنة، وكلا الخيارين مكلف، هذا ما جعل الصين تلتزم الحذر، فهي لا تزال داعمة أساسية لبوتين لكنها قبل كل شيء المستفيدة الرئيسة من حربه في أوكرانيا، والراغبة جداً في انتصاره لتبني على نتائج غزوه ما يقتضي بالنسبة إلى تايوان، لكن الحال الصينية لا تنطبق بالضرورة على الحال الإيرانية، سواء انتصر بوتين أو بخاصة إذا هزم أو بقي طرفاً في صراع لن يحسم بوضوح.

بعد «رسالة» الضربات المتعددة لمنشآتها العسكرية في أصفهان، أعادت إيران اكتشاف ما تعرفه جيداً منذ أعوام طويلة، وهو أن أذربيجان لم تعد تهديداً محتملاً لم تستطع وقفه أو احتواءه أو اختراقه بواحدة أو أكثر من ميليشياتها، بل أصبحت خطراً فعلياً داهماً على حدودها الشمالية.

لم يعد الخطر تنصتاً ومراقبة استطلاعية أمريكيين– إسرائيليين، بل إن تفاعله طوال ما يقرب من ثلاثة عقود مكنه على الأرجح من بناء شبكة لوجيستية عملانية ربما تفسر سر انطلاق المسيرات من الداخل للضرب في أصفهان. هناك مصادر عدة تشتبه بأن الهجوم الذي أمر به «الحرس الثوري» ضد السفارة الآذرية في طهران (الجمعة 27/01/2023) ربما حتمه تراكم معلومات عند الاستخبارات بأن ثمة هجوماً وشيكاً سيحصل داخل إيران، وأن أذربيجان قد تكون مصدره أو طرفاً وسيطاً فيه، بالتالي أراد «الحرس» أن يوجه رسالة تحذيرية إلى باكو، لكن «رسائل أصفهان» (ليل السبت 28/01) جاءت أشد وقعاً، إذ تولت مسيرات «صغيرة» إيصالها إلى مواقع عسكرية لم يتوقع «الحرس» استهدافها.

فيما انشغلت طهران بتهدئة الغضب الآذري بعد التعرض للسفارة، كانت باكو قد وصفت الهجوم بأنه «عمل إرهابي» وطلبت «أن يعاقب المرتكبون ومن أمرهم في أقصر وقت ممكن». ودلت مغادرة معظم طاقم السفارة سريعاً (الأحد 29/01) إلى أن باكو حددت الجهة الآمرة بالهجوم وخشيت أن يتفاقم الوضع وأن تقابل ضربات أصفهان بأعمال انتقامية. كان بديهياً أن إيران ستتهم إسرائيل، لكن حقيقة أن المسيرات جاءت من الداخل تسببت لها بحرج كبير، لذا ظل الاتهام غامضاً لئلا يصبح اعترافاً بأن إسرائيل «أصبحت في الداخل». غير أن «مصادر» شتى، أميركية خصوصاً وحتى إسرائيلية، تولت دفق سيل من الإشارات إلى أن إسرائيل نفذت العملية، مع دفق من التلميحات إلى أن هذه الضربات تؤشر إلى استعادة التعاون الأمريكي - الإسرائيلي في عمليات مشتركة ضد إيران، على رغم نفي البنتاغون مشاركة قوات أمريكية في أي عملية.

أسهم كل ذلك في إرباك محللي «الحرس» والاستخبارات، ثم زاد التشوش الإيراني بوصول رسالة من أطراف الاتفاق النووي الغربيين عبر قطر، وفي اليوم نفسه (الأحد 29/01)، بخصوص إنعاش المفاوضات التي يوشك أن يمضي عام على توقفها على رغم وجود مسودة شبه نهائية لا تزال شروط طهران (بينها رفع «الحرس» من القائمة الأمريكية للإرهاب) تحول دون حسم الخلاف عليها، بالتالي من دون بدء عملية متدرجة لرفع العقوبات عنها، بل إن أطراف الاتفاق، خصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة، فرضت عقوبات جديدة (بعض منها طال «الحرس») على خلفية قمع الحراك الشعبي وإعدام عدد من معتقلي الاحتجاجات.

قبل ذلك بأيام، كان مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي استبق تلك الرسالة بإعلانه أن الاتفاق «في وضع سيئ للغاية» وأن مساعي إحيائه «أقرب إلى أن تكون منعدمة» لأن إيران جمعت ما يكفي من المواد لصنع «أسلحة نووية عدة» لكنه قال إنها لا تملك أي سلاح حتى الآن. لعل هذا التحرك عبر قطر رمى إلى إبلاغ طهران بأن دول الاتفاق تفصل بين العمل لإحيائه ومواقفها من قضايا خلافية أخرى معها (ومنها على الأخص دعمها روسيا بالمسيرات والصواريخ). إلا أن إيران لا تفكر بهذه الطريقة، وعدا أنها تتهم تلك الدول بالتدخل في شؤونها الداخلية، فإنها تستنكر ألا يعترف لها بأن لديها استراتيجيتها الإقليمية والدولية.

لكن الأهم الآن أن إيران باتت مدركة أنه عندما أشار الرئيس الأمريكي إلى «موت» الاتفاق النووي إنما كان يفكر في الخيارات الأخرى على طاولته، وعندما عرضت أمامه التقارير عن المسيرات الإيرانية ودورها في أوكرانيا، لم يعد بايدن حريصاً على مهادنة إيران وتشكل لديه حافزان مهمان لزيادة الضغط عليها بإجازة تفعيل كل قنوات التنسيق والتعاون مع إسرائيل وغيرها.

لم يعن ذلك التخلي نهائياً عن الدبلوماسية بالنسبة إلى الملف النووي، ولا عنى القفز إلى خيار عسكري طالما اعتبر «ملاذاً أخيراً» ووصفه مبعوثه إلى إيران روبرت مالي بأنه «صعب للغاية وخطر للغاية»، لكن مالي نفسه هو من أنذر أيضاً بأن إيران «قريبة جداً جداً» من الحصول على كميات كافية من اليورانيوم المخصب لإنتاج سلاح نووي. وهذا كفيل وحده بدفع واشنطن إلى تعديل جانب من استراتيجيتها تجاه طهران.

في تقويم آخر لما حصل في أصفهان، مالت طهران إلى اعتبار أن المسيرات وصلت إلى الداخل بتسهيلات من كردستان العراق، استناداً إلى ادعاءات سابقة (كذبها تحقيق برلماني عراقي) بوجود بنية استخباراتية إسرائيلية بالقرب من أربيل. الأقرب إلى الواقع أن طهران اختارت اتهام كردستان كونها الهدف الأسهل للرد الثأري على ضربات أصفهان. وإذ أصبحت في الوقت نفسه أكثر إدراكاً لخطط تطويقها من مختلف الجهات، فإنها تعتقد أن تهديدها بـ«إشعال المنطقة» كاف وحده لردع أي هجمات عليها، لكن خصوم إيران لن يشنوا حرباً مباشرة عليها بل سيضاعفون إرباكها في الداخل، أما «إشعال المنطقة» (ضد إسرائيل) بموازاة حرب أوكرانيا فلا يناسب الروس ولا الصينيين.

* ينشر بالزامن مع النهار العربي