توالت التحذيرات الإيرانية للاتحاد الأوروبي من المضي قدماً في تصنيف «الحرس الثوري الإيراني» كياناً إرهابياً. وبعدما وردت المطالبة بهذا التصنيف تلويحاً من بعض المسؤولين والسياسيين، إذا بالقرار الذي تبناه البرلمان الأوروبي بغالبية كبيرة يذهب أبعد من «الحرس»، داعياً أيضاً إلى معاقبة جميع منتهكي حقوق الإنسان في إيران وفي طليعتهم المرشد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي والمدعي العام محمد جعفر منتظري. كان متوقعاً أن يدين رئيسي هذا القرار لكنه سارع إلى البروباغندا حين اعتبره منطلقاً من «اليأس والعجز (لدى الأوروبيين) بعد جهودهم الفاشلة في الشارع لضرب الشعب الإيراني»، متجاهلاً أن إيرانيين يقتلون ويعدمون وينكلون ويهينون النساء والرجال المشاركين في الاحتجاجات الشعبية. أما وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان فاتصل بمسؤول السياسة الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل مستغرباً «السلوك الخاطئ وغير الدروس» للبرلمان الأوروبي وتصوره «نوعاً من إطلاق أوروبا النار على قدمها». وفيما ذهبت هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية إلى القول إنه لولا جهود «الحرس» لربما تمكن داعش «من بسط سيطرته اليوم على الحكومات الأوروبية»، أنذر قائد الحرس حسين سلامي الأوروبيين بـ«تحمل العواقب في حال أخطؤوا»....

لم يشر أي من المسؤولين الإيرانيين إلى أساس الخلاف مع الأوروبيين، سواء لاعتقادهم بأن إلغاء حقوق الإنسان من قاموسهم يلغي وجودها أصلاً، أو لأنهم اعتادوا على أن القوى الغربية كانت دائماً مستعدة لتجاهل هذه الحقوق حين ترى فرصاً لمصالحها في إيران.

لكن، بمعزل عن أي موقف خارجي، لم يعد في امكان نظام الملالي إنكار الواقع، إذ لم تعد هناك أي حيل إعلامية وأيديولوجية يمكن أن تغطي سقوطه الأخلاقي تجاه شعبه في الداخل ولا انكشافه السياسي في الخارج. لا يختلف الوضع الحالي لهذا النظام كثيراً عما آل إليه حليفه الأسدي لحظة خروج الشعب السوري عن صمته.

وبما أن معلومات كثيرة متقاطعة تؤكد أن نظام الأسد تصرف وفقاً لـ«نصائح» نظام الملالي، مهما كلف الأمر، فإن مصيريهما قد لا يختلفان في نهاية المطاف: «انتصار» السلاح على الشعب، سلطة منزوعة الشرعية، وانهيار اقتصادي.

دافع عبداللهيان عن «الحرس»، وهو من صقوره المدنيين، مذكراً بأنه «مؤسسة رسمية سيادية تلعب دوراً مهماً وحيوياً في توفير الأمن القومي لإيران وأمن المنطقة، خصوصاً في القتال ضد الإرهاب».

وعدا ما يتضمنه هذا الكلام من تهميش للجيش الإيراني بالنسبة إلى الأمن القومي الإيراني، تبدو الإشارة إلى دور «الحرس» في «أمن المنطقة» وحتى «ضد الإرهاب» من قبيل التضليل الدعائي الذي اتسم به «تصدير الثورة» منذ بدايته. أكثر من ذلك، إنه ينطوي على تهديد لأوروبا، 1) إما بالخلايا النائمة لما يُسمى «حزب الله» وسواه، أو 2) بإعادة توجيه «الدواعش» إلى أوروبا المتربصة بهؤلاء، أو 3) بالثأر من المعتقلين الأوروبيين الذين تستخدمهم طهران كـ«رهائن» للابتزاز والمساومة، أو أخيراً 4) بمضاعفة الانحياز إلى روسيا في مغامرتها الاوكرانية، ولاحقاً إلى الصين في غزوها تايوان، ظناً من طهران أن دخولها في الحرب إلى أي طرف لا بد أن يرجح انتصاره. لكنها تنسى أنها قد لا تتمكن من الاستمرار هنا وهناك في لعبة الحروب بالوكالة لإبقاء أراضيها نفسها بمنأى عن أي حرب.

أهم ما في قرار البرلمان الأوروبي نصه على «إضافة الذراع الأيديولوجية والقمعية لنظام الملالي إلى قائمة المنظمات الإرهابية»، ولذلك استهدف المرشد والرئيس، ولا يزال الأخير موصوماً بقضية إعدام آلاف السجناء السياسيين عام 1988 عندما كان مدعياً عاماً لطهران، وثمة شهادات وأدلة ضده موجودة في أدراج الأمم المتحدة. ولا يعني عدم فتح هذا الملف حتى الآن أنه لن يُفتح أبداً أو أن المجتمع الدولي لم يسجل هذه النقطة السوداء في سجل رئيسي. أحد الـ36 دبلوماسياً سابقاً الموقعين على بيان عدد «أخطاء النظام» أشار إلى أن إيران مطالبة الآن بإيجاد طريقة للإجابة عن قضايا حقوق الانسان كي تتمكن من العودة للانخراط في المفاوضات النووية، إذ إن إخفاقها في إحياء اتفاق 2015 وتزويدها روسيا بالطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية باتا يدفعانها إلى عزلة دولية ومزيد من الصعوبات الاقتصادية.

في المقابل قال قائد «الحرس» حسين سلامي إن أوروبا ”لم تتعلم من أخطائها السابقة«، والمقصود هنا أن أوروبا لم تستجب ضغوط طهران عام 2018 للتمرد على الولايات المتحدة بعد انسحابها من الاتفاق النووي.

لكن هل سبق لإيران أن تعلمت من أخطائها؟ من الواضح أنها ارتكبت خطأً فادحاً بإفشال مفاوضات فيينا والمساعي الأوروبية لإحياء الاتفاق النووي، فهي بذلك أطلقت النار فعلاً على قدميها. لكنها قدرت أن الالتزامات التي يفرضها هذا الاتفاق عليها مقابل رفع العقوبات لن تمنحها المرونة التي تتحرك بها الآن ولا الدعاية لسلاحها سواء من روسيا أو من خصومها. وإذ تتباهى بأن صادراتها النفطية تزداد، على رغم العقوبات، فإن ثمة عقوبات أساسية لا تزال تقيد اقتصادها وعملتها وتعاملاتها المالية. كما أن دخول صقور»الحرس«إلى دبلوماسيتها جعلها تعتقد أن الحرب الأوكرانية تقدم لها فرصاً تلائم أيديولوجيتها سواء لأن هذه الحرب تنسجم مع استراتيجية العداء للغرب التي تتبعها، أو لأنها ترشحها كعضو رئيسي فاعل في»النظام الدولي الجديد«إلى جانب روسيا والصين، غير أنها تُخطئ في تقدير المخاطر والصعوبات الماثلة أمامها في انتظار ذلك»النظام«والمكاسب التي تتوقعها منه.

من تلك المكاسب أن إيران ستتسلم في مارس المقبل سرباً من طائرات»سوخوي سو 25«الروسية التي انتظرتها طويلاً، وما كان ممكناً أن تحصل عليه لولا تفلتها من الاتفاق النووي، ومع أنها غير واثقة بعد بأن روسيا (والصين) ستوافقان على مكسبها الأكبر بامتلاك سلاح نووي إلا أنها تراهن على ذلك من خلال»الشراكة الدفاعية«التي تبلورها مع هاتين الدولتين. لكنها هل تستطيع في آنٍ المضي في الانحياز إلى الغزو الروسي لأوكرانيا والاندفاع إلى حيازة»القنبلة«مع ضمان عدم الرد الغربي عليها؟ وفي حال تلقت ضربة إسرائيلية (- أمريكية) لواحدة أو أكثر من منشآتها النووية هل تستطيع مواصلة سياسة حافة الهاوية وهل ستجاريها روسيا والصين في تهديدها بـ»إشعال المنطقة«(العربية)؟

لعل أبرز أخطاء إيران اعتقادها من جهة بأن نفوذها الإقليمي الذي بنته ميليشياتها يقدم إلى موسكو وبكين مزايا لا تستطيعان تحصيلها من دونه، وتعويلها من جهة أخرى على أن هذا النفوذ وكذلك وضعها الداخلي غير مرشحين للاضطراب.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.