انحسار الحديث العلني عن التفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا لا يعني استبعاده في المطلق، بل إن الطرفين الغربي والروسي مستمران في الاتصالات وطرح الأفكار، لكنهما لم يتوصلا إلى أرضية يمكن أن تؤسس لتفاهم يصلح قاعدةً لوقف النار والأعمال القتالية، ومنطلقاً للتفاوض. كل يوم جديد في الأزمة والحرب يأتي بتعقيداته، لا الأوكرانية فحسب، وإنما على مستويي شرق وغرب، روسيا والصين مقابل الولايات المتحدة وحلف «الناتو». فالغزو الروسي هشّم سلاماً أوروبياً دام نحو سبعة عقود وتمكن خلالها من اجتياز الحرب الباردة، ولم تعد إعادة بنائه متاحة بالشروط ذاتها. وعلى رغم المحاولات الغربية لاحتواء هذا الغزو وحصره في النطاق الأوكراني، إلا أنه فتح فرصاً للصين وإيران وكوريا الشمالية وإسرائيل للاستثمار في التغيير الدولي، ووضع تركيا والشرق الأوسط والتكتلات الآسيوية أمام خيارات صعبة تسعى معها إلى التملص من الاستقطابات التقليدية.

في الأيام الأخيرة من السنة الأولى للحرب تبقى المخاطر على حالها وتنذر بالأسوأ. أوكرانيا وقعت في الحفرة، وليس لديها سوى خيار واحد: أن تقاتل. وكلما صمدت وحققت تقدماً أو انتصاراً ونالت استحساناً غربياً كلما زاد الدمار في أرجائها سواء في قتالها دفاعاً عن أراضيها أو لتحرير مناطق احتلتها روسيا. حلول الشتاء والبرد لم يشكل حافزاً لشيء من الهدنة، ولا حتى في موسم الأعياد، فلا وساطة أممية أو تركية أو حتى صينية في هذا الشأن، والرئيس الروسي افتتح أخيراً حقلاً سيبيرياً للغاز سيخصص لإمداد الصين. لا أحد يلتفت إلى الدمار الذي يضاعف كلفة إعادة الإعمار، والمساعدات الغربية الأخيرة ستخصص لترميم البنية التحتية وتأمين الكهرباء والماء والتدفئة، أما روسيا فبدأت إعادة تأهيل المناطق التي تحتلها ومن ذلك هدم مسرح ماريوبول الذي كانت دمرت جزءاً كبيراً منه، فالحفاظ على الحياة الثقافية ليس بين أولوياتها التي تعتمد ماريوبول ومدن الجنوب وشبه جزيرة القرم قواعد لجعل آزوف بحراً روسياً «داخلياً»، بحسب وزير الدفاع سيرغي شويغو.

على جانبي الصراع كان اليوم الـ300 للحرب محطة للمراجعة: فلاديمير بوتين تداول مع قادته العسكريين في الأسلحة الجديدة التي ستوضع في الخدمة مطلع 2023 مع تركيزه على «الثالوث النووي»، فيما كان جو بايدن يستقبل زائره الاستثنائي فولوديمير زيلينسكي الذي جاء ليطالب بأسلحة «نوعية» منها للإبقاء على توازن ما في المواجهة، لكنه سمع ما سبق أن قيل له ولأركان جيشه بأن التعرض للأراضي الروسية ممنوع، مثلما أن التعرض الروسي لأراض خارج أوكرانيا ممنوع، وهو ما غدا خطاً أحمر أمريكياً - روسياً، وليس معلوماً ما إذا كان هناك خط أحمر لحدود التوغل الروسي داخل أوكرانيا. استبقت واشنطن وصول زيلينسكي بإعلان تقديم منظومة «باتريوت» المضادة للصواريخ إلى كييف التي طلبتها سابقاً ولم تُستجب، وما لبث بوتين أن استهزأ بكفاءة هذه المنظومة وكأن واشنطن لم تسمع إعلانه عن «صواريخ فرط صوتية» ستزود بها القوات الروسية. ومن جانب آخر انكبّ خبراء عسكريون على تحليل قدرة كييف على استخدام منظومات عدة مضادة للصواريخ قدمت إليها من دول أوروبية.


في أي حال تقترب «الحرب»، كما بات بوتين يسميها (وليس «عملية عسكرية خاصة» يفترض أنها محدودة زمنياً وميدانياً)، من دخول سنتها الثانية وسط سجال أسلحة على الجانبين. لم تذكر واشنطن بالأنواع «المحدودة» لكن الفاعلة التي وفرتها لكييف، بل اكتفت بالإشارة إلى أن نتائجها الميدانية جعلت بوتين يقول أكثر من مرة إن «الوضع صعب». أما موسكو فأحاطت إستراتيجيتها المقبلة بدعاية تولاها الكرملين، ملتقطة أن وجود زيلينسكي في البيت الأبيض ثم في الكونجرس ومنظومة «باتريوت» دلائل إلى انخراط أمريكي مباشر في الحرب ضدها. وقبل الغزو وبعده لم تتوقف موسكو عن لوم الغرب على دعمه لأوكرانيا وكأنها توقّعت شيئاً آخر، أما الآن فينصب اللوم على مجرد استقبال زيلينسكي المطلوب رأسه روسياً، بل المطلوب خصوصاً ألا يكون في الصورة أو في المنصب إذا كان لأي تفاوض ثنائي أن يحصل.

في المرحلة الراهنة تتساجل واشنطن وموسكو بالعبارات والمصطلحات نفسها. تقولان عبر الناطقين إن كليهما لا ترى «إشارة سعي إلى السلام»، ويقول كل من بوتين وبايدن إن على الآخر أن «يعترف بالواقع». يتمثل هذا الواقع بالنسبة إلى الأول بأن روسيا رسمت على الأرض ما استهدفته في أوكرانيا وبات يشكل أساساً للتفاوض، أما الآخر الأمريكي فيعتبر أن أوكرانيا لن تتوقف عن القتال وأن روسيا لن تستطع إنهاء الحرب وفرض إرادتها.

هذه المعادلة مزعجة لبوتين الذي يعتقد أن التفاوض على إنهاء الحرب يجب أن يكون بـ«قرار إستراتيجي» روسي– أمريكي– أطلسي، ثم يتولى حلفاء أوكرانيا إلزامها بوقف إطلاق النار طالما أنهم يسلحونها ويمولونها، لكن الحلفاء يريدون أولاً اتفاقاً روسياً- أوكرانياً على وقف النار قبل أن يبدأ التفاوض على أي سلام مستقبلي. وبات واضحاً أن المسألة بالنسبة إلى جميع أطراف «الناتو» لا تتعلق بمساومة على أراض في أوكرانيا وإنما بزيادة كلفة «مشروع بوتين» وإحباط تهديداته لأوروبا، كذلك بوضع حد لطموحات الدول المؤيدة له.

«القرار الاستراتيجي» هو ما عناه هنري كيسنجر عندما قال إن الوقت «يقترب من أجل إحلال سلام قائم على التفاوض». كثيرون يعتقدون أن منتصف السنة 2023 سيكون حداً زمنياً أدنى، إن لم يكن أقصى، لإنهاء الحرب. وهناك خبراء يرون أن الشروط الروسية لا تسهل أي اتفاق، وبالتالي فإن الأزمة ستستمر لفترة طويلة كـ«نزاع بارد» من دون حل، على أن توضع لها ضوابط تمنع روسيا من استخدام السلاح النووي أو بمعاودة احتلال شمال أوكرانيا عبر الأراضي البيلاروسية. لكن وضعاً كهذا لا يناسب بوتين المتعجل لحسم النزاع وما نتج عنه من عقوبات تتعب الاقتصاد الروسي. كان كيسنجر اقترح باكراً حلاً قائماً على اعتراف كييف بضم موسكو مناطق في شرق أوكرانيا وجنوبها، وقد جدد اقتراحه محذراً من أن «إذلال روسيا» يعزز «مخاطر نشوب حرب عالمية مدمرة»، كذلك من «أن رغبة البعض في تفكيك روسيا قد تؤدي إلى فوضى نووية». اللافت أن بوتين أشار أيضاً إلى خطر «تفكيك روسيا»، وهذا قد يكون واقعياً وقد يكون جزءاً من البروباجندا.

لكن كيسنجر وبوتين ليسا واضحين بالنسبة إلى «ما بعد» إنهاء الحرب وضم الأراضي، ذاك أن قبول شروط موسكو لمجرد تفادي الخطر النووي سيعني بالضرورة هزيمة النظام الغربي ونهايته.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي