كان يُفترض أن يشكر حكام إسرائيل رئيس السلطة الفلسطينية على «الزلّة» الديبلوماسية التي ارتكبها في برلين، إذ أتاحت لهم افتعال ضجة لمواصلة ابتزازهم الدائم لألمانيا في القضايا السياسية، أو خصوصًا في الملف غير القابل للإغلاق في شأن تعويضات ضحايا «المحرقة» النازية (الهولوكوست) خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك في حسم الخلاف الذي طرأ أخيرًا مع اقتراب ذكرى مرور خمسين عامًا على هجوم فلسطيني ضد البعثة الرياضية في أولمبياد ميونيخ (1972)، وكان على الجانب الألماني دفع مزيد من التعويضات لذوي الضحايا قبل الاحتفال بالذكرى في الخامس من أيلول (سبتمبر) المقبل، بعدما احتجوا بأن التعويض الذي دُفع سابقًا لم يكن كافيًا.

كان ذلك الهجوم وذكراه منطلقًا للأزمة التي سببتها تصريحات الرئيس محمود عباس، فبعدما سأله صحافي إسرائيلي: هل يعتذر لذوي ضحايا ميونيخ؟ أجاب: «إذا أردنا استرجاع الماضي، فلنفعل ذلك.. منذ العام 1947 حتى يومنا هذا، ارتكبت إسرائيل 50 مجزرة في القرى والمدن الفلسطينية - في دير ياسين، وطنطورة، وكفر قاسم وغيرها الكثير - 50 مجزرة، 50 هولوكوست، وحتى اليوم، وفي كل يوم، هناك ضحايا يقتلهم الجيش الإسرائيلي».

لم تكن المشكلة في ذكر المجازر، بل في ذكر «الهولوكوست» التي لم يكن ينكرها أو يقلل منها، كما قيل بعد ذلك، بل إنه يستفظعها في سياق استفظاعه المجازر في حق شعبه، ولم يسبق لإسرائيل أن «اعتذرت» عن أي منها ولم تدفع أي «تعويض» عن أي من ضحاياها، لكن عباس كان يتحدث في ألمانيا، وفي حضور مستشارها أولاف شولتز.


لا تتعلق المسألة هنا بـ«الدفاع» عن «أبو مازن»، الذي سبق أن اعتذر عن كلام أدلى به أمام المجلس الوطني الفلسطيني (أيار/ مايو 2018)، معتبرًا أن المحرقة «لم تحصل» لأسباب دينية «مرتبطة باليهود، بل بسبب» سلوكهم المالي والاقتصادي في أوروبا.

آنذاك، استغرب الحاضرون انخراطه، بلا مناسبة، في هذا البحث الشائك الذي استفاض فيه قبله عشرات من البحاثة الأوروبيين وتعرّضوا لملاحقات قضائية وحملات تأثيم، لكن يبدو أن هذه طريقة عباس في التفكير وفي التعبير عن الاحتجاج، حتى لو لم تكن موفقة، فالرجل يعتبر أنه قدّم الكثير من التنازلات لدفع «مساعي السلام»، متقبلاً أقذع الانتقادات الفلسطينية لكنه انصدم، قبل ستة شهور من ذلك، بنسف أمريكي لأسس أي مفاوضات سواء باعتراف دونالد ترامب بـ«القدس عاصمة لإسرائيل» أو بمباشرته الإعداد لـ«صفقة القرن»، التي لا تحل مشكلة الاستيطان التي تعطل أي سلام، بل توسعه بإجازة «ضم» معظم الضفة الغربية، ومع أن جو بايدن وإدارته لا يتبنيان هذه «الصفقة» إلا أنها تزال على جدول أعمال الحكومات الإسرائيلية وتُطَبّق بشكل أو بآخر.

حاول عباس في التوضيح الذي أصدره غداة واقعة برلين، التخفيف من حدة ردود الفعل، تحديدًا الألمانية، إذ كانت زيارته مخصصة أصلاً للحصول على تأييد ألماني محتمل لطلب عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، كما قال في 2018 كرر أن «الهولوكوست أبشع الجرائم في تاريخ البشرية الحديث»، وأنه لم يقصد «التشكيك» فيها، وهذا صحيح، غير أن توضيحه لم يكفِ لتبديد «القرف» أو الاشمئزاز الذي أبداه شولتز وهو يتعرّض لانتقاد شديد داخلي وإسرائيلي بسبب صمته وعدم ردّه على التلفظ بـ«الهولوكوست»، كما فعل عندما رفض إشارة عباس إلى إسرائيل كـ«نظام فصل عنصري (أبارتايد)»، وبطبيعة الحال، لم يلقَ التوضيح أثرًا لدى الجانب الإسرائيلي الذي تلقّف الحدث لاستغلاله سواء بـ«التحريض»على عباس، أو حتى على شولتز لتدفيعه ثمن صمته، لكن خصوصًا لاستغلاله ضد قضية الشعب الفلسطيني.

أما الفصول التالية فتمثلت في الجدل الألماني: أولاً، في اعتبار أن عباس ارتكب جرمًا «له عواقب قانونية» في ألمانيا؛ لأنه وضع مجازر الفلسطينيين في مصاف «المحرقة»، وفي ذلك «استهانة» أو«تهوين نسبي» (بسبب تفاوت عدد القتلى) «لا يمكن احتماله ولا قبوله، بالنسبة الينا نحن الألمان» (شولتز)، وثانيًا، في التأويلات التي ذهبت إليها الشرطة الألمانية، من أن ذكر «الهولوكوست» فيه اشتباه بالتحريض على العنف، أو على الكراهية، وبالتالي «فإن التهوين» منها يمكن أن يُعاقب بالسجن، وثالثًا، في الاستخلاصات التي تشير إلى أن عباس كان ضيفًا رسميًا يتمتع بحصانة ديبلوماسية، أو إلى إيجاد آلية لمنعه من دخول ألمانيا، أو أخيرًا إلى مراجعة لبرنامج المساعدات الألمانية المالية للفلسطينيين والسلطة.

على مدى سبعة عقود من الصراع العربي -الاسرائيلي لم تبدُ الحكومات العربية، حتى في أحلك الظروف، معنيةً بالإشارة إلى «الهولوكوست»، لا تشكيكاً ولا إنكارًا، ولم تقحمها في دفاعها عن الحق الفلسطيني، فيما كانت «المحرقة»، ولا تزال في خلفية السياسات الغربية، والإسرائيلية طبعًا، إزاء العرب والفلسطينيين. وعلى رغم أن ثمة كتابات عربية خاضت في المسألة، إلا أنها ظلت آراء ووجهات نظر، واقعية أو متطرفة، ولم تدخل إلى المصطلحات العربية الرسمية التي استمدت دائمًا من تصنيفات يتيحها القانون الدولي، لا لوصف اليهود، بل لوصف إسرائيل (دولة احتلال، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، دولة تمارس الإرهاب...).

وفي الأعوام الأخيرة عمدت حكومات غربية عديدة إلى العبث بالمفاهيم والمصطلحات، فغدا أي انتقاد لإسرائيل وممارساتها صنوًا لـ«معاداة للسامية»، وصارت حملات الهيئات المدنية لمقاطعة المستوطنات مؤامرةً لـ«نزع شرعية إسرائيل»، بل إن حكومات غربية عدة باتت تتعمد في بياناتها عدم ذكر «الاحتلال الإسرائيلي» لئلا تحمله أي مسؤولية، وهناك أيضًا الرفض المطلق لمجرد السعي إلى مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية.

لم تشأ الجامعة العربية الخوض رسميًا في الجدل حول واقعة برلين، أو فيما يتعلق بـ«المحرقة»، لكن مصدرًا في الأمانة العامة عبّر عن استياءٍ من «التنمر» على الرئيس الفلسطيني للوصول إلى «شيطنة» الفلسطينيين و«الاستهانة» بمعاناتهم، من الواضح أن ما قصده الرئيس الفلسطيني فعلاً هو أن ما يتعرض له شعبه تحت الاحتلال يرقى إلى «الهولوكوست»، بما تعنيه إنسانيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا، ليس هناك إنكار فلسطيني أو عربي لـ«الهولوكوست»، وأصلاً لا مجال ولا داعي لإنكارها، ففي احترامها إنصاف للضحايا وهذا حقهم، أما استغلالها لتحصين دولة الاحتلال وقمع أي انتقاد لها فيعني إنكارًا لأي حق فلسطيني أو عربي، وفي ذلك طمسٌ للقانون الدولي وإفسادٌ لأي اعتبارات إنسانية وأخلاقية.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.