شكل التدخل في سورية تمدداً روسياً لوراثة النفوذ الأمريكي تدريجياً في الشرق الأوسط، وفي حين أن موسكو استخدمت دورها السوري لشراكات شتى مع دول عربية في المنطقة، كذلك مع تركيا وإيران وإسرائيل، إلا أن بوصلتها الإستراتيجية ظلت متجهة نحو الغرب، تحديداً أوكرانيا، ولم تقنع أو تقتنع بسورية كـ«تعويض» عنها. فهناك كان يقلقها زحف حلف شمال الأطلسي إلى حدودها، ومحاولته حصارها، وفرض عقوبات غربية عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم (2014).

أما في الشرق فلم تجد روسيا أي مصدر للقلق، وبعد أن تعرضت لتحد مبكر من تركيا سارعت إلى مقاطعتها وتهديدها، وسط صمت أطلسي وأمريكي، وما لبثت أن احتوتها ثم مكنتها، في إطار «تفاهم» مع الأمريكيين، من إنشاء منطقة نفوذ في شمال سورية، هذا «التفاهم» مر بتقلبات عدة ويدخل حالياً مرحلة تجاذب بفعل احتدام الصراع الأمريكي- الروسي وسعي تركيا إلى توسيع «المنطقة الآمنة» مستغلة رغبة الدولتين في استمالتها على خلفية حرب أوكرانيا.

لم تتأخر روسيا، وسط انشغالها بترتيب انتشارها في سورية (خريف 2015)، في الاتفاق على قواعد اللعبة مع إسرائيل، إذ منحتها بموجبه «حق التدخل» تحديداً ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية.


كان «أمن إسرائيل» نقطة التوافق الوحيدة المعلنة بين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب (قمة هلسنكي 2018)، مع أن الرئيس الروسي كان يبحث عن تحريك ما لملف الخلافات مع الأطلسي وعن تنازلات ما في ملف أوكرانيا، إلا أنه لم يجد لدى نظيره الأمريكي استعداداً لتنفيذ وعود أطلقها خلال حملته الرئاسية وحاول فعلاً تنفيذها بالضغط على الشركاء الأوروبيين في «الناتو»، لكن غرق ترمب داخلياً في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية حال دون تطوير العلاقة بين واشنطن موسكو، اللتين حافظتا على «تفاهمات» في سورية وغيرها، وأهمها التنسيق العسكري والاستخباري بين روسيا وإسرائيل الذي يؤكد الطرفان أنه مستمر على الرغم من المؤشرات إلى احتمال تغيير في تطبيقاته، فثمة جوانب غموض طرأت على علاقتهما بسبب حرب أوكرانيا.

لم تكن واضحة دائماً طبيعة الاتفاقات إلى تحكم العلاقة بين روسيا وإيران في سورية.

حصلت خلافات ولم تتطور أو تصل إلى حد الصدام، لكن معادلة «الجو للروس والأرض للإيرانيين» ظلت سائدة واستطاعت تنظيم حركة الطرفين وعملياتهما واستقطاباتهما لقوات النظام. حرصت طهران على إشهار أن قاسم سليماني هو من أقنع موسكو بالضرورة الملحة لتدخلها، لأن سقوط نظام بشار الأسد يسقط مصالحها أسوة بما حصل في ليبيا، وتبين سريعاً أن التدخل الروسي شكل مظلة لتكثيف الوجود الإيراني ومضاعفة حجم الميليشيات الشيعية متعددة الجنسية إلى جانب توسيع النفوذ الإيراني المدني في مناطق كحلب وحماة أسهم الروس في طرد المعارضة السورية منها.

الأكثر التباساً كان تعايش الإيرانيين مع ضرب مواقعهم بتنسيق علني بين الروس والإسرائيليين، والأكيد أنهم نالوا في المقابل موافقات روسية على إقامة بنى عسكرية حصينة في مناطق عديدة بات اليوم أبرزها في الشمال الشرقي (على تواصل مع غرب العراق) كما في الجنوب («كتائب الإمام» على تماس مع الإسرائيليين في الجولان).

رفض الروس إقامة أي قاعدة إيرانية على ساحل المتوسط، لكن المؤكد أنهم يجرون حالياً انسحابات من مناطق داخلية لا يلبث الإيرانيون أن يملأوا الفراغ فيها، بموافقة روسية. وقد أوضح سيرغي لافروف أنه «لم تعد هناك مهام عسكرية لروسيا في سورية».

دفع الحدث الأوكراني تركيا وإسرائيل وإيران إلى محاولة تحسين مواقعها في الإقليم، إما باستغلال الانشغال الدولي بالأزمة الأكبر أو بالمراهنة على التغيير المفترض في حال استمرار الانكفاء الأمريكي أمام «انتصار» روسيا، بالتالي الصين:

تستعد تركيا لشن عملية جديدة في شمال سورية، مستندة إلى حاجة الأمريكيين والروس إليها، وإلى خطتها لإعادة مليون لاجئ سوري وإسكانهم في «المنطقة الآمنة»، وهذه خطة تتماشى عملياً مع الأهداف الدولية بعيدة المدى في سورية لكن هذه الأهداف مرشحة لأن تتغير، سواء لأن رفض الوجود الأمريكي في الشمال الشرقي يجمع بين روسيا وإيران ونظام الأسد، كما أن الأطراف جميعاً تحاول اجتذاب ورقة الأكراد الذين يريدون الاحتفاظ بمناطق سيطرتهم ولا يثقون بأي طرف فيما يخشون أن يتركوا وحدهم في مواجهة الأتراك.

أما إسرائيل فترى في الانشغال الدولي بأوكرانيا غطاءً مناسباً للذهاب أبعد في الضغط على الفلسطينيين، سواء بتوسيع مشاريع الاستيطان (آخرها التمهيد للاستيلاء على محمية عين العوجا الطبيعية في أريحا/‏ 22 دونماً) أو باستخدام القوة لفرض سيادتها على أماكن العبادة والمقدسات في القدس، مقتربة باعتراف أعضاء يهود في الكنيست من تفجير «حرب دينية».

وفيما تعارض إسرائيل إعادة إعمار ما دمرته في غزة (حرب 2021) وتمعن في عنفها المفرط في أرجاء الضفة الغربية، فإنها تستجيب تقارب تركيا معها وتحاول الترويج لمشروع أمني ضد إيران بمشاركة «دول في المنطقة»، أي دول عربية، لكن مع استمرارها في تجاهل إصرار السعودية ومصر والأردن والاتحاد الأوروبي، وإلى حد ما الولايات المتحدة، على ضرورة معالجة «الجانب السياسي» من النزاع مع الفلسطينيين.

لم تترك إيران أي غموض يكتنف اصطفافها مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في تايوان وضد الغرب و«الشيطان الأكبر» الأمريكي، وتعتبر أن رياح «النظام الدولي الجديد» تدفع باتجاه تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وأهمها أن يكون لها موقع رئيس في أمن المنطقة، بالاعتماد على ميليشياتها، وأن يعترف بنفوذها في أربع دول عربية وأكثر.

أسهمت حرب أوكرانيا في تأخير التوصل إلى الاتفاق النووي الجديد، وإذ تصر طهران على شروطها فإنها لم تعد متعجلة إنجازه حتى لو بقيت العقوبات مفروضة عليها.

ومع الاحتجاز الأمريكي لناقلة نفط إيرانية في اليونان ورد «الحرس الثوري» باحتجاز ناقلتين يونانيتين في مياه الخليج، كذلك بعد اغتيال إسرائيلي مفترض لأحد ضباط «فيلق القدس» في طهران والهجوم على منشأة بارشين واستمرار الضربات الإسرائيلية في سورية، ازدادت أخيراً مؤشرات التصعيد في الشرق الأوسط.

وطالما أن العقوبات لم ترفع فإن إيران تواصل تطوير قدراتها النووية، ما يعزز احتمال تدخل عسكري ضدها، بما قد يستجره من اشعال لجبهات لبنان وسورية مع إسرائيل، ومن اندفاع في العراق وشمال شرقي سورية إلى «طرد الأمريكيين»، ومن هجمات حوثية ضد السعودية أو غيرها من دول الخليج.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»