التدين شأن خاص بالفرد، ويجب ألا يتدخل في شأنه هذا أحد، فمن شاء أن يعبد ربه فليعبد ربه كيف شاء، وعلى أي مذهب فقهي كان، وله أن يتبع أي اتجاه عقدي اطمأنت له نفسه، كما أن له الاجتهاد بنفسه وتتبع ما نزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الإلهي، أو ما صح عنه قطعيًا دلالةً وثبوتًا، ما لم يثر هذا المتدين لغطًا خارج الإطار العلمي والنقاش الفكري، بمعنى ألا يجبر أحدًا على وجهة نظره بأي أسلوب كان، ويتحول إلى داعية لمذهبه وطريقته، ومرد هذا الأمر في أصله وفلسفته إلى سنة الاختلاف التي سنها الرب تعالى في خلقه، فقد خلقهم مختلفين لا يمكن توحيدهم على طريقة واحدة مهما كانت صائبة، لاختلافهم في ظروف التنشئة والتربية، ولاختلاف البيئات الحاضنة لهم، وأماكن تواجدهم، وأزمنة هذا التواجد، يقول الله تعالى: (ولو شاء ربُّك لجعل النَّاس أُمَّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربُّكَ ولذلكَ خَلَقَهُمْ)، ولهذا فإن مسألة إجبار الناس على مذهب واحد، يعد مخالفة صريحة لهذه السنة الإلهية، ومن هنا نقول إن التدين أمر فردي لا جمعي، وجمعية التدين جاءت في غالبها من النظرية الصُلْبة في فكر جماعات الإسلام السياسي وهي نظرية التجميع، وتكثير السواد، تمهيدا للحشد والتجييش بأكبر قدر ممكن من الأتباع المباشرين، وغير المباشرين، في وقت الحاجة، لأن التدين الجمعي يلغي بكل بساطة أهم ميزة في التدين كمفهوم، وهي حرية واختيارية التوجه إلى الله بعيدًا عن التقليد واتباع نهج القطيع.

وأهم بواعث التدين الجمعي، ومسبباته، «فوضى الاحتساب»، وأعلمُ أن هذا الرأي لا يروق للمتمترسين خلف الآيات الكريمة حول مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي يعتسفونها لشرعنة ما يُحْدِثونه من فوضى وعنت بسبب احتسابهم غير المنضبط، إذ إن الاحتساب اليوم هو شأن الحاكم عبر أجهزته الرقابية والأمنية، وليس شأنًا للأفراد؛ لأن أي احتساب خارج هذا الإطار مع كثرة الناس، وتعدد الآراء وتشعبها، وكثرة الاختلاف، سيحدث منكراً أكبر، والدولة تسهم بشكل متقدم فيما يحقق مقاصد الاحتساب من خلال مراقبة الأسواق ومراقبة عمليات الاحتيال والغش، ومن خلال مكافحة الجرائم الجنائية والأخلاقية والمدنية، والمجتمع ليس بحاجة تدخل الأفراد في هذا الشأن، بحجة التقصير، فالأجهزة الرسمية قطعت الطريق على كل من يتجرأ على القول بأن فريضة الاحتساب معطلة، أو لا تنفَّذ بالطريقة المثلى، تبريرًا للقيام بالاحتساب التطوعي، فالفرائض قائمة، والحدود مصانة، والأمن مستتب بشكل لا يوجد له مثيل، ولكن الإسلام السياسي جعل من الحسبة سلمًا لغايته في السيطرة على المجتمع وتأليبه على الدولة، ولهذا اقتصر احتسابه على أمرين لا ثالث لهما، هما:

الاحتساب على الحاكم، والاحتساب على المرأة، وما عداهما من عمليات الحسبة إنما هي هوامش ثانوية، وحتى هذه الهامشيات استكثروا على الناس الوعي بها ومعرفتها، فهذا أحدهم ينعى في لقاء له، حال العامة من الناس في السعودية، وتغيرهم، لأنهم بدؤوا يسألون عن الدليل، ويذكِّرون بالخلاف الشرعي، وكأنه يستكثر عليهم ذلك، ثم يُرجع هذا المتحدث السبب إلى تسلل بعض المفاهيم الليبرالية إلى المجتمع، وهذا نموذجٌ صارخٌ لتصنيف وفرز المجتمع أيديولوجيًا.

وتكمن معضلة الاحتساب الفوضوي، في أمرين، أولهما:

مسألة قبول المحتسب عليه هذا الاحتساب من عدمه، فمع أي بادرة ولو يسيرة لعدم الارتياح في تلقي وقبول هذا الاحتساب، فيجب على المحتسب التوقف فورًا عن التطفل بإسداء أمره ونهيه، وهذا ما لا يحدث، بل يتم الانتقال من التغيير باللسان والقول إلى الاحتساب باليد، وثانيهما: عدم استحضار المحتسب، قانون الاحتساب الأساس، وهو: أن المحتسب مأمور بالبلاغ لا الهداية، كما قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)، فالحاصل في الاحتساب هو قسر الناس على الهداية التي يعتنق مذهبها المحتسب –زعمًا أنه الحق– فلا يقف بالاحتساب عند حد البلاغ لقوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ)، بل يسعى المحتسب إلى الإجبار على الهداية وهي ظنية، فالمحتسب يتأرجح رأيه بين الحق والباطل، والحقُ واحدٌ وليس متعددًا.

وحتى إن خرجنا من هاتين المعضلتين، فتبقى المعضلة التي لا تنقضي، وهي أن كل مسألة يتم الإنكار أو الاحتساب فيها، يوجد حولها خلاف فقهي معتبر، والسواد الأعظم من مسائل الفقه فيها الرأيان والثلاثة والأربعة، بل بعضها تجاوز العشرين رأيًا ومذهبًا.

ومن هنا تكون الحاجة لوجود هيئاتٍ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كجهاز رسمي، منتفية تمامًا مع قيام الدولة عبر أجهزتها المختلفة والمتعددة بمسألة الاحتساب، ففضيلة الاحتساب قائمة على قدم وساق في كل شبر من أرض المملكة العربية السعودية.

وعودة على مسألة التدين المتعدد، ومذاهبه المختلفة، فإنه يجدر بالحصيف أن يستفتي قلبه، ويتبع ما يمليه عليه أنه الأقرب إلى الحق، والأسهل عليه في سلوك الطريق إلى الله تعالى، الذي سيسأله وحده، وسيحاسبه وحده، ولن يسأل معه أحدًا غيره، ولن يسأله عن الآخرين، ما دام أفرغ وسعه في اتباع ما يرى أنه الحق، ومارس تدينه وفقًا لقيم الإسلام العليا، ووفقًا لسماحته ويسره، ولقوله تعالى: (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وحتى مسألة استفتاء القلب هذه، لن تكون إلا بالتمييز بين مجموعة هائلة من الآراء البشرية المختلفة في المسائل الشرعية، لأنها في النهاية إنما هي اتباع لآراء الرجال، وليس اتباعًا للدليل، إذ إن المسلمين يتحركون بالفتاوى ولا يتحركون بالدليل، والفتاوى هي اجتهادات بشرية بناء على فهم المفتين لتلك الأدلة، ولا أجد ضيرًا في أن يتبع الإنسان ما يطمئن له قلبه من بين هذه التدينات، سواء اتبع مذهبًا ما، أو اجتهد في تلمس الحق وتتبع مظانه، ما دام ملتزمًا بخاصة نفسه، ولا يثرب على الآخرين تقليدهم، وعلى الآخرين بالمقابل احترام اختياره.

أخيرًا، سلطة الدولة حماية من كل انحراف؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.