إن تأملك لبعض المشاهد الاجتماعية والإنسانية والعملية في هذه الحياة، يجعلك بعض الأحيان حائرًا أمام بعض الشخصيات من حولك، تفكر كيف يمكن لها الاستمرار في تدفقها بالحياة، وكيف استطاعت أن تتعايش مع تحدياتها وعقباتها. هذا التفكير بطبيعة الحال يجعلك تتساءل عن كيفية اتخاذ هؤلاء الناس قراراتهم في حياتهم.

في مرحلة سابقة أعجبتني فكرة الشخصيتين اللتين تعيشان في داخل الإنسان، والتي تحدث عنها الدكتور نزار عبيد مدني في كتابه الجميل «سيرة دبلوماسي من طيبة».

يقول - أطال الله في عمره -: أؤمن بأن شخصية الإنسان تنقسم إلى قسمين أو شخصيتين: الشخصية الأولى تكمن في أعمق أعماق نفسه، ويمكن أن نطلق عليها الشخصية المستترة. أما الشخصية الأخرى، فهي التي يعرفها الناس ويتعاملون معها في الحياة اليومية، ويمكن أن نسميها الشخصية الظاهرة. ويستمر بالقول: لذا، أن داخل كل إنسان منّا مستودع عميق من الأسرار والأفكار والآراء والميول والمشاعر والأحاسيس والأهواء والشهوات، قد نفصح عن بعضها بإرادة منّا أو من دون إرادة في بعض الأحيان.

وغالبا لا نعترف بوجود هذا الشخص الآخر بداخلنا، أو بالأحرى لا يمكننا التنبه بوجود هذه الشخصية المستترة، مع أننا نرمز لها كثيرًا في أحاديثنا وتعبيراتنا، ودائما ما نشير إليها عندما نعبر عن أنه ضميرنا الذي يؤنبنا أو يوحي إلينا.

أما أكثر ما ندركه فهو عندما نعيش حالة صراع شديد مع أنفسنا حيال عمل أمر من الأمور، هل نفعله حسب ما تراه الشخصية الظاهرة التي تؤمن بما يعتقده الناس من حوله، أو لا نفعله، حسب ما تراه الشخصية المستترة التي ترغب به ميوله الكامنة ومشاعره المتوغلة في داخله.

ويصل من خلال هذه الفكرة البديعة إلى أن القرارت التي يتخذها الإنسان تعود إلى ثلاثة احتمالات: الأول: أن يتخذ القرار بناء على التأثير المطلق من شخصيته المستترة والخفية، بمعنى، أن هذا القرار لا يحفل أبدا بالمؤثرات الخارجية ولا بطبيعة العلاقات ولا المجاملات التي تراعي مشاعر الآخرين، وغالبًا ما يكون هذا القرار صحيحًا في نظر الإنسان نفسه حتى لو بدا أمام الناس قرارا خاطئًا وغير موفق. الثاني: أن يتم اتخاذ القرار بتأثير مطلق من الشخصية الظاهرة العلنية، بمعنى أن الأساس في هذا القرار هو الانطلاق من مقتضيات العلاقات الإنسانية، وغالبا ما يكون هذا القرار خاطئًا في نظر الإنسان نفسه رغم أنه يبدو سليمًا وصحيحًا في نظر الناس الآخرين.

الثالث: أن يتم اتخاذ القرار بالتوافق ما بين الشخصيتين، وهذا القرار دائما ما يكون هو السبيل الوحيد الأمثل الذي يستطيع الإنسان من خلاله اتخاذ قراراته السليمة والصائبة سواء في نظره أو في نظر الآخرين.

ويصل في النهاية، إلى أن القرارات الصحيحة هي القرارات التي تأخذ مبدأ ومفهوم التوازن في صناعتها، ولذلك يعتقد أنه لا بد من الاستماع بعناية لكل ما يهمسه لنا الشخص القابع بداخلنا، وكذلك لا بد ألا نغفل أو نتغافل عن طبيعة الحياة البشرية العلاقات الاجتماعية وما تقتضيه من مجاملات ومشاعر وتغافل.

وبالمناسبة، كتاب الدكتور نزار يتحدث بجانب شخصيته، عن العلاقات الدولية والصراعات التي تحدث في هذا العالم المتسع، ومن الجيد لمن يرى متعة القراءة في هذه المجالات، أن يطلع عليه في هذا الوقت الحرج بهذا الكون المأزوم.