في 2019 كتبت مقالاً بعنوان (الشعبوية وقلق المثقف) وكانت خاتمته: أيها الشعبوي اصرخ واشتم يميناً وشمالاً وتصنَّع وطناً يناسب صراخك العالي في كل وجه بلا أدنى دراية أو إدراك سوى دفاعك الأعمى عن وطن لا تعرف معناه، كالأعمى يدافع عن أوصاف فيل لم يعرف منه سوى الخرطوم، فالمستقبل لسيادة القانون الذي يجعل المواطنة قيمة عليا لسبب حكاه العارفون بقولهم: (ما كانت طاعة الدولة فضيلة إلا لأنها امتثال للقوانين الحافظة للحقوق، وما كان «المواطن» في طاعته «نبيلاً» إلا لأن سلطة الدولة احترمت من خلال قوانينها كرامة مواطنيها، بضمان ما لهم من حق)، قد نقبل صراخك الآن لأننا قد نحتاج أوباش الشعبوية من (الوطنجية) ضد أوباش الأيديولوجيا من السرورية والإخوانية، وما عدا ذلك (صه) فالمواطنة ميلاد إنسان حر نبيل، وليست ميلاد عبد آبق يظن الحرية ثورة ضد لون آخر أو طبقة أخرى أو عرق آخر أو طائفة أخرى، فسيد الأحرار نيلسون مانديلا كالعنبر الفواح، وغاندي كالعود الهندي النفيس، فعن أي (طرش بحر أو قبيلة أو حزب أو تيار) يتنابز الشعبويون، كونوا فقط بحجم الوطن، فلسنا بحاجة لشعبوية القذافي في ألقاب جمهوريته (العظمى)، ولا بحاجة لأيديولوجيا المزايدة باسم الدين على كرامة ضمائرنا بين إخوان الخارج وسرورية الداخل، كونوا بحجم (المملكة العربية السعودية) وكفى.

ولهذا فإن أخطر ما يؤثر في الوجدان العام هو تمظهرات (الصحونجي/ تسميه العرب قديماً الطفيلي وحديثاً الملقوف) الذي كان يتقمص دور السلطة في هيئة الأمر بالمعروف دون أن يكون من منسوبيها، حتى شوهت هذه الشعيرة المقدسة في الوجدان العام. لنراه وبـ(طفيليته/ لقافته) نفسها، وقد تحول إلى (وطنجي) يتقمص دور الأجهزة الأمنية التي لها صلاحيات منظمة ومحدودة لا تخالف (النظام الأساسي للحكم) في احترام خصوصية المواطن، حتى أضروا بمعنى المواطنة وشوهوها في الوجدان العام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وعتبي ليس على هؤلاء كما أوضحت في مقالي عام 2019 فهم يملؤون الفراغ الذي تركه بعض المثقفين في تخليهم عن دورهم في التوعية بمعنى (المواطنة)، واستبدال أخلاقيات الصحوة العابرة للحدود الوطنية بأخلاق المواطن الملتزم بقضايا وطنه دون إفراط فاشي أو تفريط شوفيني. ولهذا سبق وأوضحت أن الدولة الحديثة تستطيع (السيطرة) في تحرير الفضاء العام من الصحوة، لكن (الهيمنة) الصحوية على أخلاقيات معظم الناس ما زالت ـ للأسف ـ بيد الصحوة رغم (اجتهاد الوطنجية بالصراخ والتنمر). وواجب المثقف تحقيق (الهيمنة) الوطنية على أخلاقيات الناس بإيجاد البديل في (أخلاق المواطن) وأدبياته، ليصبحوا (مواطنين) فيحترموا دولتهم عقلاً وقلباً بدل أن يخافوها كأنهم (صحويون) يمارسون الإنكار الصحوي (بقلوبهم) تجاه أنشطة الدولة التي تريد نقل أبنائهم من (الاقتصاد الريعي) البائد والخطير على مستقبل الوطن، إلى (العمل والإنتاج)، وما يستتبعه من مشاركة مدنية ومؤسسات مجتمع مدني تحتوي المواطن بمفاهيمها ومعطياتها بدلاً من معطيات (ما قبل الدولة الحديثة).

وأخيراً قد يناسب المثقف بعد هذه السنوات التوقف عن (نقد الصحوة وأدبياتها)، وترك ذلك للمتخصصين في (الحركات الإسلامية) بحكم تجربتهم الناضجة أو تخصصهم، والانتقال إلى (تبيئة مفاهيم المواطنة) وإحلالها مكان مفاهيم الصحوة، فعرض البديل ـ في الوقت الحالي ـ أهم من تحطيم المحطم والبائد على المستوى المادي، بينما الوجدان الشعبي بلا غطاء، ثم نعتب على (الوطنجية) في ملئهم لهذا الفراغ بالصراخ المخيف والتنمر المرعب، الذي لم ينتج عنه سوى شعارات وصور وطنية لا تملأ الضمير العام بيقين وطني صادق، بقدر ما ينتج (نفاقاً وطنياً) يشبه (النفاق الديني) القديم. ولعلي أنقل الفقه إلى من هو أفقه مني في (الهندسة السياسية للمجتمعات) إذا ذكَّرت المثقفين بكتابين مهمين يساعدان في تجلية المقصود وهما (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث/دراسات في الثقافة الأخلاقية) مجموعة مؤلفين ترجمة محمد مندور، صدر عام 1944، وكتاب بعنوان (ما المواطنة؟) لدومينيك شنابر وكريستيان باشولييه، ترجمة سونيا محمود، مع مراعاة الفارق الحضاري بين ما يقرؤونه و(الدولة الحديثة) في العالم العربي، ليتم الطرح الثقافي لأخلاق المواطنة وفق ثوابتنا الوطنية تاريخياً وسياسياً مع استنهاض الوعي العام، دون جموح طوباوي يسقط الواقع في أحلام اليقظة، أو تشاؤم ديستوبي يلوِّن الواقع بسوداوية المكتئب.