كشف هذا الحادث حقيقة الأمن في طرابلس وغرب ليبيا عموماً. دأب خصومها في الشرق على القول، إن الميليشيات هي المسيطرة في طرابلس، وكانت تردّ بأن لديها «قوات حكومية» هي القوات الشرعية الوحيدة خلافاً لـ«الجيش الوطني» في شرق البلاد. الواقع أن لا قوات شرعية في ليبيا بل أطراف مسلّحة تتقاتل للاستيلاء على السلطة، وتعتمد على دعم خارجي باتت تركيا وروسيا عنصرَيه الظاهرين اللذين يستحيل إخراجهما مع مرتزقتهما، مهما قست لغة قرارات مجلس الأمن أو توعّدت بعقوبات. ومنذ إعلان وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 صار واضحاً أن خطوطَ تماسٍ رُسمت، ولم يعد مسموحاً بتخطّيها، لذا بات البعض يعتبرها «حدوداً»، مثلما كان كل من الطرفين يرى أن حل الأزمة يكمن في سيطرة قواته على كل ليبيا أو «تحريرها».
لم يكن الاستعراض الميليشيوي تلك الليلة للاحتجاج فقط، كان للتعبير عن رفض الميليشيات إجراء انتخابات رئاسية في 24 ديسمبر، ذلك الموعد الذهبي الذي اعتُبر مفتاحاً للحلّ النهائي للأزمة التي بدأت عملياً غداة «انتصار الثورة» في 2011 وما لبثت أن تفجّرت صيف 2014 حين طردت ميليشيات «فجر ليبيا» الحكومة المؤقتة ولم تعترف بنتائج انتخابات يونيو ولا بالبرلمان الذي انبثق منها. حينئذ كانت القوى الخارجية المتدخّلة متوارية وراء المقاتلين المحليين، أما الآن فأصبح غرب ليبيا يُصنّف «تركياً» وشرقها «روسياً» وجنوبها أشبه بـ«منطقة متنازع عليها».
ولماذا رفض الانتخابات؟ لأن الميليشيات تخشى أن تتمّ على حسابها وأن يتحدّد مصيرها بمساومات بين المتحاصصين. لطالما قال قادتها، إنهم لم يُكافأوا على دورهم في إسقاط النظام السابق، أو على تأمينهم أمن مناطق انتشارهم في غياب أي جيش أو قوى أمنية. ثم أن حظوظ الميليشيات والأحزاب الإسلاموية الداعمة لها لم تكن جيّدة في الانتخابات التي أُجريت مرّتين سابقاً. ظهر صلاح بادي، قائد ميليشيا «لواء الصمود»، في فيديو وسط أنصاره في مصراتة، بعد ساعات من زيارة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز للمدينة، ليهاجمها ويتهم من التقوها بـ«الخيانة» وليعلن أن الانتخابات لن تُجرى «بهذه الطريقة». ذاك أن وليامز ناقشت مع قادة مصراتة العسكريين «سبل توحيد المؤسسة العسكرية» ودعتهم إلى البناء على جهود اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) ولقاء سرت بين الفريقين محمد الحداد (قائد أركان الجيش التابع لحكومة الوحدة الوطنية/ طرابلس) وعبد الرزاق الناظوري (المكلف قيادة «الجيش الوطني»/ بنغازي).
كان ذلك كافياً لمهاجمة المستشارة الأمريكية، لأن توحيد الجيش يطرح بالضرورة مصير الميليشيات، وهو أهم بنود العملية الثلاثية (سياسية وعسكرية واقتصادية) التي قادتها وليامز، حين كانت رئيسة البعثة الأممية بالوكالة قبل أن تنتهي مهمتها أوائل مارس الماضي، ويُعيّن السلوفاكي يان كوبيتش رئيساً للبعثة. لكن الأخير لم يبدُ قادراً على متابعة قيادة العملية بالكفاءة نفسها، سواء للإشراف على عمل «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة عبدالحميد الدبيبة أو الإعداد المبكر للانتخابات، فهذه الحكومة كانت مُطالَبة بتوحيد المؤسسات لكنها اصطدمت بعراقيل الانقسامات وضغوط البرلمانَين، فمالت إلى الانشغال بالطموحات الانتخابية لرئيسها، برغم أن شروط منصبه لا تسمح له بالترشّح. وإذ توالت الخلافات على المرجعية الدستورية للانتخابات وقانون تنظيمها ثم على الطعون بالترشيحات الرئاسية (خصوصاً الدبيبة وسيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر)، اتضحت استحالة إجراء الاقتراع في موعده المحدّد. وفي ظل الانقسامات المناطقية ظهرت أيضاً استحالة القبول بالنتائج في حال رجّحت كفّة منطقة على أخرى.
لذلك تراءى لكثيرين أن مغادرة وليامز شكّلت بداية فشل أو «إفشال» لما أنجزته بمتابعة ودعم من الدول المشاركة في مؤتمر برلين الذي غدا مطلع 2020 المرجعية الدولية للأزمة الليبية. إذ إن عدم وجود وليامز عنى ارتخاء الدعم الأمريكي وأفسح للفرقاء الليبيين وداعميهم الخارجيين استعادة زمام ألاعيبهم لتثبيت واقع الانقسام وإحباط أي جهود توحيدية. لم يكن إصرار السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند ونشاطه كافيين للإبقاء على زخم ما أنجزته وليامز، وإذ أعيدت أخيراً بطلب من واشنطن ورغبة أممية إلا أن صفتها الاستشارية لا تمنحها التأثير السابق في الفرقاء المحليين عندما صمّمت حوار «المنتدى السياسي الليبي» وتابعته عن كثب، ثم أن الوضع تغيّر خلال الشهور الماضية بعدما ارتُكبت أخطاء وأخفقت حكومة الدبيبة في «بناء الثقة» الضروري تمهيداً للانتخابات.
وهكذا يتبيّن أن عامين من السعي إلى إنهاء الأزمة أهدرا عملياً. إذ جعلت واشنطن من الانتخابات بداية مرحلة ليبية جديدة وأصرّت على إجرائها في موعدها، متصوّرةً أن «الدولة» المفتَقَدة ستولد بمجرد وجود رئيس وحكومة منتخَبَين. كان في ذلك كثير من التجاهل للاختراقَين الروسي والتركي، والأخير بدأ بضوء أخضر من أمريكا -ترمب وليس واضحاً أن أمريكا -بايدن أبقت ذلك الضوء أم أطفأته، بل إن السياسة الأمريكية تجاه ليبيا هي الأكثر غموضاً للحلفاء قبل الخصوم. وليس تأجيل الانتخابات سوى رغبة روسية مؤكّدة، وإلى حدٍّ ما تركية، ولعله أصبح الآن رغبة أمريكية، قبل أن يكون رغبة ميليشيات محلية. فهذه الأطراف جميعاً غير متفقة على شخص الرئيس الليبي المرغوب في انتخابه، ولدى كلٍّ منها مرشّح مفضّل و«فيتوات» على مرشّحين رئيسيين آخرين. الأكثر تداولاً أن سيف الإسلام القذافي هو مرشح موسكو، برغم علاقتها الوثيقة مع خليفة حفتر.
أبرز المخاوف من تأجيل الانتخابات أنه سيكون تأجيلاً طويلاً يفتح الأزمة على كل الاحتمالات، وأهمها أن يتحوّل الانقسام الحالي إلى تقسيم يناسب مصالح روسيا وتركيا على أرض الواقع. هذه أزمة أخرى تتطلّب «توافقاً» أمريكياً - روسياً لا ترغب واشنطن في المساومة عليه. ولذلك تفضّل موقّتاً أن يبقى الوضع على حاله من تقاسم للسلطة والثروة.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»