هذه الجولة في مقدمة المقال عن الكون والأرض والتاريخ لنناقش عبارة مراوغة في (العقل العربي) الذي ينتمي بنيويًّا لما قبل كوبرنيكوس والدليل على ذلك أن كلمة (قديم) ترادف (الأصالة) وترادف (الحقيقة) وترادف (جوهر الشيء في ذاته) ولهذه الدلالات جميعًا نراه يقف من (القديم) موقف المدافع عن حقيقته الأصيلة التي يرى فيها جوهره الثمين الغالي، غير مدرك أن كلمة (قديم) بالمعنى التاريخي تعني بالنسبة لعمر الإنسان على الأرض أنه (صغير/طفل)، وبقول آخر أكثر وضوحًا: إنسان النياندرتال قبل نحو ثلاثين الف سنة يعتبر طفل صغير لا يمكن مقارنة عقله بعقل اليونان قبل ألفين سنة، بل إن إنسان العصر اليوناني قبل ألفين سنة هو طفل في بعض نواحيه مقارنة بعصرنا فلا يرى أي وحشية أو بربرية في تقسيم الناس إلى أحرار لهم حقوق، وعبيد أقرب للدواب لا قيمة لحياتهم سوى قيمة سعرهم في سوق النخاسة، ولا يستنكر (العقل اليوناني) هذا الأمر ويراه من بديهيات الحياة التي لا يناقشها عاقل، إذًا فالعقل اليوناني يعتبر أقل وعيا (إنسانيًا) من العقل الحديث الذي يرى في استعباد البشر جريمة ضد الإنسانية، والسبب أن (العقل البشري) على هذه الأرض بدأ صغيرًا غرائزيًّا أقصى إمكانياته (العاقلة) لا تتجاوز التقاطعات الموجودة في نفس نوعه من (الثدييات) التي تعيش بغرائز (القطيع) في رعاية بعضها البعض، ولهذا فإن علماء الأحافير يشيرون إلى أن سبب انتصار (الإنسان العاقل) على (إنسان النياندرتال) رغم أن الأخير أقوى عضلات وأضخم بنية جسدية إلا أن (الإنسان العاقل) استطاع أن يكوِّن مجتمعات تتجاوز المئات من البشر، بينما (إنسان النياندرتال) لم يكن القطيع فيه يتجاوز تقريبًا الخمسين ثم تبدأ الخلافات بينهم لينشق القطيع مكونًا مجموعة أصغر، مما جعل (الإنسان العاقل) أكثر استراتيجية وقوة، رغم صعوبات توفير الطعام التي نشأت معه وانتصر عليها باختراع أو اكتشاف الزراعة واستئناس (الدواجن)، والتي لم يستطع (إنسان النياندرتال) اكتساب مهاراتها، بل كان أشبه بالحيوان القمَّام (يقتات على بقايا الفرائس ويشارك السباع ضحاياها).
نعود لتاريخ العقل الإنساني، فكلما تقدم العقل البشري في الزمن أصبح أكثر وعيًّا بالكون من حوله، وصولًا إلى قضايا (ثقب الأوزون) وتحديد حجمنا الأقرب للهباءة في مجرة درب التبانة فكيف بالكون، بينما بقي (العقل البشري القديم) مشغولًا في نظرته للكون بمنطلقات أقرب للوثنية في طقوسها، وسيرتبك معها الوثني لو أخذناه في سفينة فضائية ليدرك كم هو مرتبط في أغلب مجالاته (الميتافيزيقية) بالشمس والقمر كارتباط الفراعنة قبل أكثر من أربعة آلاف سنة.
وأخيرًا العقل القديم هو عقل الإنسان البدائي، ووفق التراكم الحضاري للبشرية فسيصبح عقلنا الحالي لمن بعدنا بخمسمائة سنة (عقل بدائي)، لكنه بالنسبة لمن يقدس (القديم) سنصبح (أوثان فكرية) لا يمكن دحضها أو التشكيك في أقوالها، وما ذهب إليه المتأثرون (نفسيًّا) من آثار الحربين(الأولى والثانية) في هذا العالم من أن البشرية ما زالت متخلفة، فهذا صحيح بمعنى أن (تطورها الأخلاقي) ما زال يحاول اللحاق (بتطورها التقني)، ولكن التطور الأخلاقي لا يمكن أن تستقيه البشرية من تراث حضارات بائدة ترى في سوق النخاسة (عبيد وجواري) وضعًا إنسانيًّا طبيعيًّا كما في الحضارة اليونانية أو الفرعونية القديمة، بل يجب عليها أن تبني (تطورها الأخلاقي) وفق معطيات (علمية حديثة)، يحاول اقتراحها رجال القانون الذين صنع التراكم التاريخي عندهم ميثاق (حقوق الانسان) الذي تجاوز (أخلاق الكنيسة) وصولًا إلى (أخلاق المواطن)، ويمكن نقضها بعد ذلك كنوع من التطور العلمي (التراكمي) للتقنية والأخلاق معًا (فأخلاق ما قبل أربعة قرون في أوروبا كان المسيحي الكاثوليكي يستبيح فيها دم المسيحي البروتستانتي ليصل عدد الضحايا فيما سموه مذبحة يوم القديس بارتولوميو إلى 5000 قتيل على أقل تقدير احتفل بها البابا آنذاك)، ويبقى السؤال عن موقع (الديانات) وسط هذا التطور العلمي والتراكم التاريخي للمعرفة، والإجابة ببساطة بأن موقع الديانات في نفوس معتنقيها لن يتغير ما دام الموت هو المصير المحتوم للفرد مهما سهى ونسى وغفل، أو اغتر وتكبَّر.