أسئلة العقل القديم في عالم جديد، سببها الجذري في عقول البعض يكمن في أن المستقبل الحقيقي للبشرية ــ من وجهة نظرهم ـــ أن تعود (للخلف/للأسلاف) فهذه العقول مستقبلها وراءها !!، عاجزة عن رؤية الماضي والحاضر والمستقبل بخط مستقيم أو حتى حلزوني صاعد، ولهذا فإن هذا (العقل القديم) يعيد إنتاج أسئلته القديمة لا إرادياً ثم يريد تلفيق إجابات حديثة لسؤال قديم، متناسيًا أن للأسئلة تاريخ صلاحية وأهمها هذا السؤال: (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) لأن هذا السؤال تم طرحه ومحاولة الإجابة عليه عام 1930م، فهل له قيمة في زمننا هذا؟! خصوصًا إذا علمنا أنه جاء متأثرًا بسقوط الدولة العثمانية ولهذا تجد الإجابة تمتدح الخط الحديدي الحجازي والغاية من هذا الخط... إلخ فظروف السؤال جاءت كردة فعل مليئة بالنوستالجيا/الحنين على سقوط الدولة العثمانية (1922م) لتنتهي السلطنة العثمانية التي نشأت منذ (1299م) على أنقاض كيانات استنفدت عطاءها التاريخي.

(لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) سؤال يتضمن إشكالاً واضحًا لمن قرأ ولو بشكل عابر التاريخ العالمي خلال خمسمائة سنة، فقبل خمسة قرون، لم يكن هناك اختلاف كبير بين سكان العالم، وسائل المواصلات (هي الدواب فقط)، اختراع المطبعة لم يظهر بعد، غزو المحيطات واكتشاف خريطة الكرة الأرضية بدقة لم يتم بعد... إلخ.

إذًا فسؤال (لماذا تأخر المسلمون) يصلح في ذروة الحملات الصليبية (الكنيسة مسيطرة على أوروبا) وسيعتبر سؤالًا معبرًا عن (روح ذاك العصر الكهنوتي)، أو لنمد التاريخ قليلًا لنقول إن آخر قيمة معنوية وموضوعية لهذا السؤال كانت عند سقوط آخر شبر من أرض الأندلس 1492م، أما طرحه في عصر مختلف ونستطيع تسميته (عصر ما بعد اتفاقية ويستفاليا عام 1648م)، فيؤكد أن السؤال جاء متأخرًا قرابة القرنين، بل ويؤكد أن (المسلمين خصوصًا العرب) بقوا طيلة الحكم العثماني (خارج جدلية التاريخ)، ولهذا عندما سقط العثمانيون ظهرت أسئلة (العقل القديم) في (العالم الجديد)، ولهذا كانت النتائج مخيبة للآمال، بل إن المتأمل لحقيقة فشل (الشريف في الحجاز) سيجد أنها تعود في حقيقتها لأسباب تتعلق بعقليته التي تصر على سؤال (لماذا لا يحكم الهاشمي القرشي عموم بلاد المسلمين؟) فكأن خطأ الشريف أنه سأل سؤال (العقل القديم) في (العالم الجديد) ليخسر الحجاز ثم العراق، وينجو من أبنائه من فهم (العقل الحديث) وعاش به في الأردن، إنه عالم ما بعد (وستفاليا 1648) بل عالم أكثر حداثة، إنه عالم ما بعد (معاهدة فرساي 1919م).


المخيف فيما نراه الآن في العالم العربي ليس إدراك الشعوب أن هذا السؤال (لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم) سؤال عقل قديم، وأن السؤال الأكثر معقولية مثلاً (لماذا تخلفت الصومال وتقدمت ماليزيا؟) أو (لماذا حرب المياه بين تركيا وإيران ضد العراق؟)، (لماذا بعض دول النفط العربي مزدهرة في الخليج على عكس بعض دول النفط في الشمال الأفريقي؟).

إن أخطر ما يواجه القيادات السياسية في العالم هو استخدام أسئلة (العقل القديم) وإجاباته، في واقع (العالم الجديد المتجدد) ولهذا فإن حقيقة سقوط الدولة العثمانية ليس في بعدها أو قربها من الإسلام، بل في تأخرها الشديد وتخلفها عن إنتاج (عقلها الجديد) وهذا ما فعلته بدهاء ومكر مذهل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) لتحجز لها مقعدها في العالم الجديد ضمن (الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي) متخلية عن الكبرياء الأعمى الذي أصاب منافسيها القدامى جدًا كأسبانيا والبرتغال ومنافسيها الجدد كالمانيا وإيطاليا، لتلعب وفق إطار حديث وناعم جداً إسمه (الكومنولث)، وما زالت تلعب بإزدواجية المثل الشعبي (يرعى مع الراعي ويعدي مع الذيب) لتراها تحاول الرعي مع أوروبا مع الحفاظ على امتياز العزف المنفرد، وبالمقابل تراها تعدو مع الذيب الأمريكي كمستعمر قديم لم يفقد مخالبه بعد، لكن الذيب الأمريكي بدأ يلاحظ إشكالات العالم الجديد فبدأ يسابق الزمن كي لا يدركه (مكر التاريخ) الذي أدرك من قبله.

وإجابة العقل الحديث على هذا السؤال القديم (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟) ستكون: السؤال إما أنه خطأ أو أنه مغرق في العمومية فعن أي مسلمين يتحدث صاحب السؤال؟ هل يقصد ملايين المسلمين يحملون جنسيات أوروبية وأمريكية وروسية ويعملون في القوات المسلحة لكل هذه الدول، أو يقصد السؤال قرابة مائتي مليون مسلم هندي يفخرون بجنسيتهم (الهندية) مقابل الجنسية (الباكستانية)، إن السؤال الذكي والملهم في (زمنه) يتحول إلى (سؤال غبي وأحمق) في غير زمنه ووقته، وهذا ما حصل للسؤال القديم (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟).

قد يجادل أصحاب الأسئلة القديمة بقيام دولة إسرائيل، والإجابة ببساطة (إسرائيل قامت على العقل العلماني الأوروبي الحديث) في كل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم تقم على (العقل السلفي اليهودي) الذي يحرم الجوال حتى هذا التاريخ إلا بإذن وفتوى من الحاخام، ليت إسرائيل تربط نفسها بعقل (الحاخام) وفتاواه، لنراها مثل بقية بعض الدول الفاشلة والهشة المجاورة لها التي تعاني الضعف الاقتصادي والفساد السياسي مع التمزق العرقي والطائفي بين مراجعها الدينية رغم ثرواتها الطبيعية.

في كتاب (عقل جديد لعالم جديد) لروبرت أورنشتاين وبول إيرليش ص 36 يسردون ملاحظتهم لأعمى منذ الولادة تم زراعة قرنية لعينيه وعمره 52 سنة، وقد احتاج بعض الوقت ليميز الأشياء البعيدة من القريبة، وخلال أسبوع أصبح يقرأ ساعة الحائط دون أن يلمسها، المخيف في الحكاية أنهم عندما أخذوه لآلة خراطة كان يعمل عليها طيلة عمره لم يعرفها نهائيًّا، وعندما أغمض عينيه وقام بلمسها قال: (الآن، وبعد أن لمستها يمكنني أن أراها)، ولهذا فالعالم الجديد يحتاج إلى عقل جديد لاستيعابه وإلا ستعيش كثير من دول العالم خصوصًا العربي كهذا الأعمى الذي لم يتخل عن عقله القديم الذي يرى باللمس وليس بالنظر، وأول النظر أن لا يضيع العمر في أسئلة الزمن القديم لأن الإجابة وفق العقل القديم ستجعل بعض المجتمعات كثور الساقية تدور على نفسها، محتارة في أسباب تكرار الفشل، كما دار (الإخوان المسلمون) بأنفسهم وبغيرهم ممن طاوعهم منذ نشأتهم عام 1928م وحتى الآن.