وأخيرا.. انتصر المشروع الفردي بالضربة القاضية، حيث ظل العالم، طيلة ما يربو على سبعين عاما، يعرف نظامين لإدارة أمور المجتمعات البشرية: أحدهما يؤكد أن الطريقة المثلى لهذه الإدارة هي أن يتولى «المجتمع» ككل، ممثلا في «الحكومة» أو «الحزب»، تنمية جميع موارده، والتخطيط لها، وتوزيعها بطريقة مركزية، والآخر يتمسك بترك الأفراد يديرون أمورهم بأنفسهم، ويؤكد أنه كلما قل تدخل الدولة في نشاط الأفراد كان ذلك أدعى إلى حفز هذا النشاط، وإطلاق طاقاته الإبداعية، وفجأة انهار النظام الأول، وكأنه جبل من ورق، وكان السبب الأساسي في انهياره هو أن الفرصة قد أعطيت للشعوب التي كانت تخضع له، كي تعبر عن رأيها، للمرة الأولى، بقدر كبير من الحرية، فكانت النتيجة رفضا كاسحا لهذا النظام.
وهكذا أصبحت الساحة خالية أمام «المشروع الفردي» بلا منافس، وأخذت الدول التي كانت تأخذ بالتخطيط المركزي الصارم تتسابق من أجل نفض آثار نظامها القديم، وتتبارى في تأكيد ولائها للنظام الفردي، أو لـ«الاقتصاد الحر»، على حين أن الدول التي كانت تبحث لنفسها عن اختيار بين النظامين، أو كانت تطبق نظاما مختلطا يمزج عناصر كل منهما، قد حسمت أمرها، ولم يعد أحد فيها يجرؤ على الوقوف في وجه الاتجاه الذي يدعو إلى الانحياز الكامل للنظام الذي يترك الفرد حرا في إدارة مشروعه الخاص، ويكف يد الدولة أو المجتمع عن توجيه نشاط المؤسسات الفردية أو التخطيط لها.
وها نحن اليوم نرى انتصار المشروع الفردي يبدو للعالم في صورة خلاص من أغلال كانت تثقل كاهل الفرد في المجتمعات «الشمولية»، بل لقد انتشر على أوسع نطاق ذلك الرأي الذي يقول إن المشروع الخاص هو «النظام الطبيعي» للإنسان، وإن المحاولة التي بذلت لإيجاد نظام بديل، سواء اتخذت اسم الماركسية أو الشيوعية أو الاشتراكية أو التخطيط المركزي، إنما هي محاولة «مضادة للطبيعة». ومن هنا أصبحت مرحلة الأعوام السبعين التي انقضت منذ الثورة الروسية والتجربة الشيوعية الأولى تعد مرحلة شاذة، أو جملة اعتراضية خارجة عن السياق، ومحاولة فاشلة لمعاندة طبيعة الإنسان.
في اعتقادي أن سقوط ذلك النظام، الذي شاعت تسميته «النظام الشمولي»، كان أمرا حتميا، حيث أدت طريقة تطبيقه إلى تباعد تام بين مبادئه المعلنة وما يمارس في المجتمع بالفعل، واتسعت الشقة بين القوة المسيطرة في المجتمع والجماهير التي يفترض - نظريا - أن كل شيء يتم لحسابها، وكانت المسافة شاسعة بين القيم التي تدعو إليها الكتابات والنظريات وواقع الحياة التي يعيشها الإنسان، ولكن السيطرة البوليسية المحكمة كانت تحول، في معظم الأحيان، دون تعبير الجماهير عن آرائها الحقيقية، إلى أن فتح «جورباتشوف» الأبواب والنوافذ - وكان هذا بالفعل كل ما فعله في السنوات الأولى من حكمه - فانطلقت المشاعر المكبوتة، وسقط البناء الاستبدادي في غمضة عين.
ولكن القضية التي أود أن أؤكدها، والتي يختلف فيها رأيي عن كثير من الآراء الشائعة في هذه الأيام، هي أن سقوط هذه الأنظمة لم يكن راجعا إلى أنها مخالفة لـ«طبيعة الإنسان»، ففي اعتقادي أن من الخطأ الشديد تثبيت مجموعة من السمات أو مبادئ السلوك، وتأكيد أنها هي التي تشكل «الطبيعة البشرية»؛ لأن جوهر هذه الطبيعة هو التغير، ولأن الدرس البليغ الذي نستخلصه من تلك التقلبات الحادة التي مر بها الإنسان، في طريقة تنظيم حياته وعلاقاته مع الآخرين، هو أن الكلام عن طبيعة بشرية ثابتة إنما هو وهم كبير، وهو في معظم الأحيان اعتقاد باطل بأن وضعا معينا يعيشه الإنسان في مرحلة معينة هو الوضع الدائم الذي لا بد أن تستقر عليه البشرية.
إن المقولة الشائعة منذ أول التسعينيات هي أن تنظيم المجتمع على أسس فردية خالصة - وهو جوهر الفكر الرأسمالي - قد أثبت أنه هو الأصل الثابت، وأن أية محاولة للخروج عليه لا بد أن يكتب لها الإخفاق، وأن يعود أصحابها، مهما طال بهم الزمن، إلى «الوضع الطبيعي».
ومن المألوف، في هذه الأيام التي يحتفل فيها المشروع الفردي احتفالا صاخبا بانتصاره النهائي، أن نرى هذا المشروع يصور للناس بصورة تجعله يبدو أكثر النظم ملاءمة للطبيعة الحقة للإنسان، وأقدرها على تحقيق كل إمكاناته، فالمشروع الخاص مرتبط بالحرية، وهي قيمة عزيزة لا تقدرها إلا الشعوب التي افتقدتها، وهو لا يضع قيودا على نشاط الإنسان، بل يطلق هذا النشاط، ويدعه يمضي إلى أبعد مدى تسمح به قدرات كل فرد. هذا المشروع الفردي هو وحده الذي يقدم للإنسان ذلك الحافز الذي يدفعه إلى العمل بأقصى ما تسمح به طاقاته، ومن ثم فإن المجتمعات التي يسودها هذا المبدأ هي أكثر المجتمعات إنتاجا ورخاء، وأرفعها مستوى في معيشتها.
وعلى هذه المسألة الأخيرة بالذات ينصب تساؤلنا: هل صحيح أن «من طبيعة الإنسان» ألا يعمل بأقصى طاقته، وألا يحقق في العمل جميع إمكاناته الذهنية والنفسية والجسدية إلا في نطاق المشروع الفردي الخاص؟.
حتى هذه اللحظة، يبدو أن الجواب عن هذا السؤال لا بد أن يكون بالإيجاب، فحين طالبت المجتمعات الاشتراكية السابقة مواطنيها بأن يعملوا «من أجل المجتمع»، وحين حددت المهمة التي يقوم بها كل منهم في إطار العمل الاجتماعي العام، وحين وضعت حدودا لما يمكنه أن يربحه وأن يملكه، ووظفت هذا كله في إطار «المصلحة العامة للمجتمع»، كانت نتيجة ذلك التراخي والتكاسل في العمل، وفقدان الروح الابتكارية، وانعدام الطموح، مما أدى إلى تراجع شامل في مستوى الإنتاج والمعيشة.
أما المجتمعات التي تركت مواطنيها يعملون من أجل أنفسهم، أو من أجل مشروعهم الخاص، ولم تفرض قيودا على إمكانات الربح والتملك والتوسع لديهم، فقد انطلقت الطاقات الإنتاجية فيها إلى أقصى مداها.
1992*
*أكاديمي مصري متخصص في الفلسفة." 1927- 2010 "