«التعليم» خطير لمن يحمل وعياً سياسياً وتاريخياً، ليكتشف أن نواة التعليم تكمن في السيطرة على «العالم»، فالتعليم في الأصل لم يكن متاحاً للجميع وبالمجان، وما زال في حقيقته البنيوية ليس متاحاً للجميع وبالمجان إلا في مجالات وتخصصات تشبه الفرق بين وزير بحقيبة ووزير بلا حقيبة، وليس المقال مشغولاً بالتفصيل والإيضاح في هذه النقطة، لكنه مشغول بالفرق بين «التعليم لتوفير كوادر عاملة في السوق»، أو «التعليم لتوفير كوادر صانعة للسوق وللنظام العالمي»، وقد يستغرب القارئ ربط التعليم ومخرجاته المبدعة في «الاختراعات والصناعات»، وأثرها على النظام العالمي ليتحول من نظام رأسمالي إلى نظام آخر يؤثر على دول العالم، وهذا ما نحاول بيانه بعد أن نوضح الفرق بين التعليم التقليدي والتعليم الحديث.

فعندما تتنافس الدول العظمى على تطوير التعليم في صراع محموم، فإنها ليست مشغولة بتوفير كوادر عاملة للسوق بشكله التقليدي، فهي تدرك تماماً القلق المخيف من المستقبل واختراعاته وأثرها على النظام العالمي بالمعنى السياسي المتجاوز للمعنى التقليدي لاقتصاد السوق وكساده وازدهاره... الخ.

وهنا نعيد السؤال على أنفسنا «ما معنى تطوير التعليم؟» تطوير معناه أن الوسائل والمناهج القديمة بحاجة لتحديث، بينما الحقيقة ووفق ما يراه المتابع على أرض الواقع في بلادنا فإن التعليم باتجاه «إصلاحات جذرية» تليق بالنقلة النوعية التي نرجوها باتجاه «2030»، فالتعليم كان أقرب للكتاتيب مع بداية الدولة ثم انتقلنا للمرحلة الثانية التي استعنا فيها بمعلمين من أنحاء الوطن العربي لصناعة أرضية حقيقية من «محو الأمية» على مستوى القراءة والكتابة، وقد تفوقت الدولة في هذا المجال على كثير من دول الحضارات والأنهار المجاورة في وقت وجيز متخطية أزمة إقناع الناس لإلحاق أبنائهم بالمدارس عبر مكافآت مالية لضمان دخول جميع الفئات الاجتماعية، ومتجاوزة أزمة «تحريم تعليم البنات» التي عارضتها أقلية شعبية، ثم انتقلنا إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة إنتاج الاكتفاء الذاتي من المعلمين «التقليديين»، وها نحن في المرحلة الرابعة إذا جاز التعبير لإخراج «التعليم التقليدي» من شرنقته المرتهنة إلى مواصفات قديمة تخالف «التعليم التحديث»، ومنها أن «التعليم التقليدي مشغول بالميتافيزيقا، بينما التعليم الحديث مشغول بالفيزيقي في حياتنا، التعليم التقليدي يهدف إلى إلغاء الفرد لصالح الناس، التعليم الحديث يهدف إلى تنمية الفردانية، التعليم التقليدي يتضمن نفس المناهج منذ العصور الوسطى، التعليم الحديث تستجيب المناهج فيه للتغييرات المحتملة في المواضيع، التعليم التقليدي يضع أساس المعرفة (الإلهام) ولا يجوز الاعتراض عليها، أما التعليم الحديث، فالحصول على المعرفة من خلال التجارب والاستنتاج، التعليم التقليدي ضرورات المعرفة فيه بموجب أمر إلهي فقط، بينما التعليم الحديث فتحصل المعرفة فيه للاحتياج إليها كأداة لحل المشاكل، التعليم التقليدي لا يشجع التساؤل عن المسلمات والفرضيات، بينما التعليم الحديث يساعد على ذلك، التعليم التقليدي نمطه سلطوي متحكم، التعليم الحديث تشاركي تعاوني، التعليم التقليدي التذكر فيه مهم جداً وعقل الطالب مستقبل سلبي وغير محدد، بينما التعليم الحديث يهتم باستيعاب المفاهيم الأساسية للتفكير ويوجه عقل الطالب ليكون إيجابياً ويمكن أن يكون متخصصاً»، وما بين القوسين نقلاً عن برويز أمير علي، الذي أدرك مبكراً جداً معاناة التعليم في باكستان منذ بزوغ نجم الحركات الإسلامية قبل نصف قرن، وقد أثرت فعلاً على سباق باكستان العلمي مع جارتها الهند مما اضطره للهجرة من بلده وتأليف كتابه الثمين «الإسلام والعلم، الأصولية الدينية ومعركة العقلانية» كإبراء للذمة مما رآه من تدهور في التعليم الباكستاني بسبب «أسلمة العلوم» أيام ضياء الحق، والذي قام بتقديم الكتاب هو العالم محمد عبدالسلام من أصل باكستاني وهو أول مسلم يحصل على نوبل في الفيزياء عام 1979 وكان مؤيداً لما ورد في الكتاب.


لكن قضية التعليم كما ذكرت في أول المقال لها أبعاد لدى الدول العظمى تتجاوز مجرد «صناعة السوق» لتدخل إلى التحكم في النظام العالمي، فالدول العظمى تتسابق في تطوير تعليمها لأنها ضمنياً تريد الهيمنة على «الاقتصاد» بمعناه الفلسفي «المادي التاريخي»، وليس فقط بمعناه التجاري السطحي «السوق»، فالاقتصاد في حقيقته وسائل إنتاج، ولهذا ينسب لكارل ماركس في كتابه بؤس الفلسفة عبارة توضح خطورة الاختراعات وأثرها على نظام العالم والدول، مما تدرك خطره الدول العظمى تماماً عندما قال: «إن الطاحونة اليدوية (الرحى) تعطيك مجتمعاً به زعيم إقطاعي، أما الطاحونة الآلية فتعطيك مجتمعاً به رأسمالي صناعي»، ولهذا كانت الدول الرأسمالية هي المهيمنة في العمق على النظام العالمي خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

بقول آخر قد يتم إبداع وسائل إنتاج تؤثر على البشرية لتتحول من نظام رأسمالي إلى نظام قد يكون اشتراكياً وقد لا يكون، لكن قطعاً سيكون نظاما يؤثر على هيمنة الدول، ليتكرر عليها ما تكرر على خريطة العالم السياسية بعد سقوط (النظام الإقطاعي) بما فيه من دول لم تعد موجودة الآن، والسبب يكمن في اختراع الطاحونة الآلية والآلة البخارية التي حولت النظام الإقطاعي في العالم إلى نظام رأسمالي وعليها قس.