وواضح أن أُكذوبة هذا الحاكم كانت سياسية واقتصادية، ثم تلتها حملات كبيرة في الأناضول والعراق والشام ومصر والمغرب والهند، منها ما هو مدعوم من الدولة العثمانية ومنها ما هو مدعوم من الإنجليز والفرنسيين، تجتمع كلها في أن المحرك لها هو العامل السياسي، حيث كان المطلوب من الجزيرة العربية أن تبقى فوضى مفرقة متقاتلة، والمطلوب من العالم الإسلامي أجمع أن يبقى رهين الخرافة والضلال، وكلا الأمرين لن يَكُونا إذا نجحت الدولة السعودية بدعوتها التوحيدية، في توحيد القلوب وتوحيد الوطن وتوحيد الشعائر وتوحيد الله عز وجل.
ويبدو أن هذا الباعث السياسي المناوئ ما زال قائما ولم يتغير رغم تغير الظروف وتعاقب السنين، فالدولة السعودية مستهدفَة في وجودها ليعود الناس أيدي سبأ، ومستهدفة في عقيدتها ليعود الناس إلى الخرافة والجهل والتفرق في الدين.
كانت توصيات مؤتمر جروزني عام 1437 إحدى الوقائع المهمة التي انكشف فيها طرف مما تُخبئه نفوس كثيرين من الحقد والدعوة للفرقة والعصبية، رغم مُضِيِّهم دهراً وهم يزعمون أحقيتهم بحمل راية المودة والألفة والاجتماع، إلا أن موجة الاشمئزاز التي صاحبت انتشار خبر قرار المؤتمر استئثار الصوفية والأشاعرة والماتوريدية بوصف أهل السنة، حملت البعض على الاعتذار من هذا الموقف على المستويين السياسي والعلمي.
لكن الأيام الفائتة، ورغم انشغال الخلق بهذه الجائحة التي نسأل الله تعالى كشفها عن العالمين، شهدت ملتقى علمياً في إحدى المؤسسات العلمية ذات الاتجاه الصوفي الأشعري في مدينة العقبة الأردنية، تكررت فيه تلك المزاعم دون أن تجد من يقف في وجهها أو يردها على قائلها مما يوحي بتبني المشاركين أو أكثرهم لها، والذين منهم للأسف بعض السعوديين كما يبدو من لباسهم.ذكر أحد المحاضرين: أن من لا يرى التمذهب الفقهي على أحد المذاهب الأربعة وليس ماتوريدياً ولا أشعرياً ولا منتمياً لإحدى الطرق الصوفية، فليس من أهل السنة، وهو بهذا يأتي بما لم يأتِ به متآمروا جروزني حيث أضاف التقليد المذهبي على شروط التسنن!
كل هذا وهو يبدأ محاضرته بتقرير أن أهل السنة هم الذين يأخذون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
وهنا نطرح أسئلة لهذا المحاضر الكريم ومن ينتهج نهجه في كل مكان:
- هل كان الأئمة الأربعة الذين يُطْرَدُ من أهل السنة - بزعمكم - من لم يقلدهم أشعريين أم ماتوريديين؟
الجواب بالتأكيد لم يكونوا شيئاً من ذلك لأن آخر الأئمة الأربعة وفاةً وهو أحمد بن حنبل توفي سنة 241 وولد الماتوريدي قريباً من عام وفاته، أما الأشعري فوُلد بعد ذلك بـ19 عاما 260!
فلماذ إذاً نخالف الأئمة الأربعة في العقيدة ونتَّببع من وُلدوا بعد وفاتهم، مع أننا نتبعهم في الفقه، هل كانت عقيدتهم فاسدة؟ أم كانوا يُخْفُون عقيدتهم الصحيحة ويُظهرون خلافها؟ أم كان المسلمون والأئمة الأربعة معهم يجهلون العقيدة الصحيحة حتى قيّض الله الماتوريدي والأشعري فَعَلَّما الأمةَ ما كانت تجهله منذ عهد رسول الله وصحابته؟
وبماذا يُرَد على من قال: إنني سأقلد الصحابة في العقيدة وتابعيهم وتابعي تابعيهم، هل سَيُقَال له: لا تفعل لأن الصحابة والتابعين كانوا يجهلون العقيدة؟ فهذه طامة عظيمة، أم سيقال له: لا بأس عليك في تقليدهم، فحينذاك ما الداعي للانتساب لهذين الرجلين؟!
أمَّا حصر أهل السنة في مقلدي أحد الأئمة الأربعة فما الدليل على ذلك من الكتاب أو السنة وهما مصدرا أهل السنة والجماعة في التلقي؟
وإن لم يكن ثَمَّ دليل فبأي هوى يقال ذلك مع أنه مخالف لأقوال الأئمة الأربعة كلهم، والذين أُثر عن جميعهم قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
ثم ما هو حال الأئمة الذين سبقوا في وُجودهم الأئمة الأربعة، والأئمة الذين عاصروهم، والذين جاؤوا بعدهم، أليس هؤلاء من أهل السنة؟
ثم هل كان الأئمة الأربعة والماتوريدي والأشعري من أصحاب الطرق الصوفية؟، الجواب: لا قطعاً؛ فكيف يقال: من ليس صوفياً فليس سنياً؟!
والذي يُدْرِكه أولو الألباب أن كُلَّ ما ذكروه من اشتراط التمذهب العقدي والتمذهب الفقهي والسلوك في طرق التصوف للانضواء تحت راية أهل السنة ليس مخالفاً للسُّنة وحسب، بل مخالف لخصيصة اليسر التي جعلها مستقرة في عقيدة الإسلام وفي تشريعاته وتعاليمه عن علاقة العبد بربه وبالحياة وبالناس، فقد كان الرجل يُسْلِم ويعلمه رسول الله التوحيد وأركان العبادات فيقول أحدهم كما جاء في الخبر «أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد علَى ذلك شيئًا؛ أأدخل الجنة؟ فيجيب صلى الله عليه وسلم: نعم» ويأتيه الرجل ويقول يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، فيجيب عليه الصلاة والسلام: «قل آمنتُ بالله ثم استقم».
ولم يأمر الله ولا رسوله أحداً باتِّباع أحدا من البشر، بل المُتَّبع هو كلام الله وكلام رسوله ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قَليلًا ما تذكرون﴾ [الأعراف:3]
وإذا لم يتَّضح للعبد أمر من أمور دينه، أمره الله أن يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: 43-44]
ولم يأمر عز وجل أحداً أن يسأل عالماً حنفياً أو حنبلياً، وإنما من آتاه الله فقه الكتاب والسنة وكان من أهل العدالة والأمانة فهو الذي يُسأل في أمور الدين
ولا بأس عند اتباع السلف الصالح بدراسة مذاهب الأئمة الأربعة وحفظ تراثهم وجعله منهجاً للتدريس حتى يتمرس طالب العلم في فقه المسائل ومعرفة طرق الاستنباط والترجيح ثم تكون المرجعية للدليل، أما أن يكون غير المتمذهب خارجاً عن أهل السنة، فمن القول الكُبَّار الذي عانى المسلمون من التعصب على أساسه قروناً طوالاً حتى أصبحوا لا يصلي بعضهم خلف بعض ولا يزوج بعضهم بعضا، وخسرت الأمة بسببه مئات من الأذكياء كان في مكنتهم أن ينهضوا بالأمة في ميدان الاجتهاد لكنهم غمروا أنفسهم تحت عطاء التقليد المذهبي.
وأما الماتوريدية والأشعرية فقد عاشت الأمة بسببهما غريقة في عالم الغيب الذي لم يُكَلِّف الله الناس معرفته، مما أدى إلى انشغال عباقرة العلماء بما ليس لهم به علم، خلافاً لنهي الله لهم عن ذلك ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا﴾ [الإسراء: 36].
وأما التصوف فما أوقع الأمة في أوحال الشرك وصرفها عن نور التوحيد وأغرقها في مجاهل الخرافة حتى استضعفتها الأمم وأخضعها للاحتلال الأجنبي إلا التصوف وطرقه التي ليس فيها مأثور عن الرسول ولا عن صحابته ولا عن أهل بيته ولا تابعيهم ولا تابعي تابعيهم.
ثم بعد أن كادت الأمة تتحرر من هذه التفرقة وهذه المذهبية وتلك الطرق التي وقفت حاجزاً بين المسلمين وبين صحيح الاتباع لنبيهم وأصحابه، بعد ذلك تأتي هذه المؤتمرات والمراكز السياسية التي تَلْبَسُ عباءة الدين والعلم الشرعي لتعمل على إعادة المسلمين إلى عالم الخرافة والتشرذم بزعم تمييز أهل السنة.
وسؤال أخير يمليه علينا هذا الملتقى وغيره: هل نتائج مؤتمر جروزني انقطع أمرها بعد تلك الاعتذارات، أم لا زالت باقية كتوصيات تُعْمَل على وفقها الخطط والبرامج؟!