‏1965/4/1

هنا صوت فلسطين

بعد جهود مريرة، استمرت شهورا طويلة، استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية، أخيرا، أن تفتتح إذاعتها في القاهرة ثلاث ساعات يوميا، وقد فوجئ كل الثوريين في العالم بالبرنامج الثوري الذي تقدمه هذه الإذاعة: فبوسعك في السادسة والنصف أن تستمع إلى مجموعة من الأغنيات. في السابعة: طائفة من الأغنيات. وفي السابعة والنصف يحدث تغيير مهم، فيسمعونك «باقة» من الأغنيات. في الثامنة إلا ربعا: ثلاث أغنيات. في الثانية يطرأ تعديل آخر: أغنية واحدة طويلة. في الثامنة والربع: إعادة للمجموعة الأولى من الأغنيات منقّحة ومزوّدة بفهرس وهوامش. في الثامنة والنصف مفاجأة: نشرة الأخبار تغنّيها ليلى مطر، والتعليق لنجيب السّراج. في التاسعة: برنامج ما يطلبه المستمعون. في التاسعة والربع: أغنيات لم يطلبها المستمعون. في التاسعة والنصف: ختام (أغنية عائدون). يقال إن أحد المستمعين أرسل برقية تهنئة إلى الإذاعة، فلُحّنَت على الفور، لتنويع البرامج!


3/‏4/‏ 1965

هؤلاء الذين يتنكّرون بالخاكي

لأسباب تحتاج إلى دراسة دقيقة، يصادف دائما أن المدنيين الذين يلبسون البدلات العسكرية، ويتصوّرون وهم واقفون في داخلها، يبدون وكأنهم مدعوون إلى حفلة تنكريّة..

والمشهد الطازج لهذا الموضوع هو الأستاذ أحمد الشقيري، حيث لا تبدو البزّة العسكرية أداة تنكريَّة فقط، ولكنها تبدو غريبة بعض الشيء، كرجل قفز إلى داخلها مباشرة من منصّة الأمم المتحدة!

السيد شو - قاي - ري - (بعد عودته من الصين الشعبية) أعلن أنه لن يخلع بزته العسكرية قبل استرجاع فلسطين. شيء ممتاز ومشجع، ولكن ألن تبدو البزة الخاكيَّة غريبة بعض الشيء، في أروقة الفنادق الضخمة والقصور الفخمة؟

المهم أن شباب المخيمات قرّروا بالمقابل أن لا يلبسوا البزّات العسكرية إلا إذا، ببساطة وتواضع، أمَّن لهم الشّقيري هذه البزّات!

22/‏4/‏1965

بحث أولي في الطّب السَّياسي

يقال: «صنّج» الإنسان، أي أصابته ضربة برد «فتصنَّج». «تصنَّج» التي إذا أضيفت لها أل التعريف أصبحت اسمًا.

«الأصنج» في اللّغة هو المخلوق الذي أصابته لفحة برد فعجز عن تحريك الجزء الذي تلقّى فيه هذه اللَّفحة من جسده، ولا تستعمل هذه الصفة في وصف من لا يستطيع تحريك عقله، أو ضميره، إلا إذا دخلنا إلى البلاغة، فأطلقنا اسم الجزء على الكل، وهو دخول معروف في اللغة. والبرد هو ريح تأتي من الجزر البريطانية في كافة الفصول، وتكون من الحدِّة بحيث تخترق الملابس التي «تغطِّي» الجسم، فإذا كان المصاب لا يتمتع «بالمناعة» الحقيقية اخترقت جلده أيضا، ووصلت إلى عقله، وتلك أخطر الحالات.

و«التَّصنيج»، في الطّب، على أنواع، منه ما هو مؤقت يزول بزوال السبب، ومنه ما هو مزمن، وينصح الأطباء «المصنّج» عادة باللجوء إلى بيته، وطمر جسده تحت الأغطية، والامتناع عن الحياة الاجتماعية، وخصوصا السياسية. والعلاج هو أن يعرق المصاب حتى يسيل عرقه، ويمكن أن يحدث ذلك عن طريق الخجل، أما إذا كان المصاب لا يخجل فحالته ميؤوسة.

5/‏6/‏1965

في الشعر البيروقراطي!

«إكبس إيده»، اصطلاح بيروقراطي شائع بين طاولة وأخرى في دوائرنا العنكبوتية، إكبس تربح، لا تكبس تخسر، إذا كنت كبِّيسًا معاملتك عالعين والرَّأس، جديد على هالشغلة روح شفلك سل واشتغل بسوق الخضرة، وتذكَّر دائما قول شاعرنا البيروقراطي الأول: لا تقل أصلي وفصلي أبدًا، إنما أصل الفتى ما قد كبس.

والكبسة، في وجهها الآخر، موقف أخلاقي، فمن حيث الكمية فإن الكبسة الواحدة تتراوح بين اللِّيرة والمئة، فالأمر يتوقَّف على أخلاقك، وحجم معاملتك. أما من النَّاحية الكيفيَّة، فالقصَّة هنا تتعلَّق بخبرتك الأكروباتيَّة، فإما أن تناول النَّصيب من تحت الطَّاولة، أو تشبكها بأوراق المعاملة، أو تعلن عنها إعلانًا مهذبا لا يطاله القانون حين تقول: كأنما بنيّة طيّبة: «شوف اللِّي بتأمره»!

ولذلك قال الشَّاعر: إكبس! كبست من الكبسات ما كبست كبوس كبسي، وما قد يكبس الكبس.

غسان كنفاني

روائي وصحفي فلسطيني «1936 - 1972»