عماد آل عبيدان

عماد آل عبيدان

بيوت صغيرة، بين جدران تحفظ الهمسات الأولى، وصرير الأبواب التي تتسع لحكايات الليل، يُصنع وطن.. وعلى أصابع صغيرة ما زالت تحمل رائحة الحليب، في عيون بريئة ترى العالم بحجم غرفة اللعب، هناك أمة تُشيّد، وحضارة تُنحت ملامحها الأولى. «التربية» ليست نشرة تعليمات تُوزّع مع كوب الحليب وصحن البيض، وليست أوامر عابرة تُلقى على عجلٍ بين نصائح الجدّات وأصوات التلفاز. «التربية»، في جوهرها العميق، فنّ يمنح اليد الطرية مهارة، والعقل الناعم فكرة، والروح الغضة طموحًا. «لكنها» قبل كل شيء، فلسفة تصنع من الطفل بطلًا منزليًا قبل أن تجعله مواطنًا صالحًا. «البطل الصغير.. أول وزير» «للطفولة والطوارئ» «قبل» أن ينطق الطفل «بابا»، عليه أن يدرك أن «بابا» ليس عامل صيانة «طوارئيًا» يعمل بنظام المناوبة المفتوحة، وأن البيت ليس نزلًا فندقيًا تُرفع فيه الطلبات بضغطة زرّ. «في كل يت»، هناك زر مفقود: زر المهارة الذاتية، الذي يُدرّب الطفل على أن يكون يدًا مباركة في بيته، قبل أن يكون عقلاً مستوردًا في مدرسته. «تخيل» لو أن طفلك يحمل بطاقة تعريفية معلقة على باب غرفته، مكتوب عليها: «اسمي فلان.. إذا هربت نقطة ماء أو أظلمت لمبة، فأنا أول من يتحرك!» تلك البطاقة ليست مجرد ورقة، إنها تصريح دخول لعالم المسؤولية المبكرة، حيث يشعر الطفل أن البيت مملكته، وأنه «عضو مجلس إدارة الأسرة»، لا مجرد متلق للأوامر. «خصص» له «حقيبة أدوات الإنقاذ العائلية»، مكتوب عليها اسمه مع عبارة: «عدة البطل المنزلي فلان آل فلان» وفي كل مرة يشارك في إصلاح أو حل أزمة صغيرة، تُضاف إلى حقيبته «شارة شرف» جديدة، ليكبر مع إحساسه بأن المهارة وسام، وأن العائلة فريق متكامل، لا مجرد غرف معزولة تحت سقف واحد. «الطاعة الذكية».. «حين يُطيع الطفل بفخر لا بخنوع» «الطاعة» ليست انحناءة رأسٍ فارغة، بل فهم لما وراء القرار. الطفل الذي يفهم أسباب الأوامر، ويرى نفسه شريكًا فيها، يطيع بحبّ واعتزاز، لا باستسلامٍ وبلادة. «كل قرار منزليّ»، مهما بدا صغيرًا، هو جلسة إدارة مصغرة، والطفل فيها عضو أصيل. في كل مرة يُنفذ مهمة بحب، قدّم له «تذكرة VIP»، تمنحه ساعة ألعاب إضافية أو امتياز التفاوض على موعد النوم. الطاعة الذكية لعبة ممتعة، لا أوامر عسكرية. «ولمَ لا؟» اجعل لكل طفل مهمة تشاركية حتى في الإصلاحات: تمرير المفكّ، حمل مصباح الجيب، أو تسجيل المهمة في دفتر الإنجازات العائلية. حين يشعر الطفل أن يديه جزء من الحل، لن يفرّ يومًا من مواجهة المشكلات. البيت.. أول جامعة وأول معمل وأول وطن في البيت، قبل المدرسة، يتعلم الطفل أول درس في الفيزياء وهو يراقب الماء يتسرب، وأول درس في الهندسة وهو يتأمل مفكًا يدور في يد والده. هناك، في قلب المطبخ، بين انطفاء لمبة وسقوط صنبور، تولد أوطان، وتُصقل مهارات، وتُكتب سيرة ذاتية مبكرة لمواطن يعرف أن بيته مسؤولية.. لا مجرد مكان للمبيت.

أنشئ «سجل الإصلاحات العائلي»، دفتر توثيق بطولات البيت، يسجل فيه الطفل تاريخ العطل، واسم المصلح، ونوع المهمة، مع رسمة كاريكاتيرية توثق الإنجاز. بعد عام، سيصبح هذا الدفتر وثيقة شرف، وألبوم ذكريات يصنع انتماءً عميقًا بين الطفل وجدران بيته. ولمزيد من الحماس، أطلق «تحدي إصلاح الأسبوع»، مهمة صغيرة كل أسبوع: تركيب رفّ، تغيير لمبة، أو ربط صنبور.. والفائز يحصل على «مطرقة الذهب» رمز البطل العائلي. في بيتٍ كهذا، الأدوات ليست جمادات.. إنها شخصيات أدبية تحت الطلب. «أبطال الأدوات.. حين يصبح» «المفك حكيمًا والكماشة جريئة» «في عالم الأطفال»، كل شيء يتنفس.. فلماذا لا نقدم الأدوات شخصيات حية؟ اجلس مع طفلك، واكتب معه سلسلة «حكايات الأدوات»، حيث المفكّ مستشار العائلة، والكماشة بطلة الإنقاذ، والمطرقة وزيرة الدفاع. كل مهمة إصلاح تتحول إلى حلقة من مسلسل البيت المقاتل.. حيث البطولات لا تحتاج إلى كاميرات، بل إلى يد صغيرة تمسك بمفكّ. «الطوارئ.. مناورات البطولة» «تحت السقف»و «حين يُسمع في البيت صرخة»: «الماء يفيض!» أو «الكهرباء انقطعت!».. لا داعي للهلع، بل هذه فرصة ذهبية. طفلك الذي يعرف أين مفتاح العزل وأين صمام الماء الرئيسي، يستحق «وسام الطوارئ الذهبي». اجعلها عادة شهرية: «مناورة طوارئ منزلية»، تقطع فيها الماء أو الكهرباء فجأة (تحت إشرافك)، وتطلب من أطفالك إدارة الأزمة. الفائز يحصل على «جائزة نوبل للإنقاذ المنزلي»، لأن فيض الغسالة وانفجار سخان الماء هما من دروس الجغرافيا والعلوم الأكثر أهمية في عمر الطفولة. «الألقاب العائلية.. شجرة» «المهارات الحية» في البيوت العريقة، «لكل فرد لقب»: هذا حداد السطح، وهذه مزارعة الحديقة، وذاك كهربائي الطوارئ. استعد هذه الألقاب، واصنع «شجرة عائلة المهارات»، لوحة على الحائط، بجانب كل اسم فرد مهارته الخاصة: «بابا» - مهندس الطوارئ العامة، «ماما» - وزيرة التدبير المنزلي، «علي» - كهربائي صغير، «فاطمة» - خبيرة زراعة النعناع، هكذا.. يكبر الطفل وفي قلبه لقب، وفي عقله مسؤولية، وفي يده مهارة. تحليق أخير: «وطنٌ يُبنى بمفكّ» «صغير» «بيد صغيرة» تُمسك بمفكّ.. يبدأ وطن. وبابتسامة فخر بعد إصلاح بسيط.. «يُبنى مواطن عظيم». علّموا أطفالكم أن البيت ليس مجرد جدران وسقف.. بل أول جامعة، وأول ورشة، وأول مصنع للبطولة. «علموهم» كيف يُضيئون منازلهم بأيديهم قبل أن يُضيئوا أوطانهم بعقولهم. «ففي كل بيتٍ.. يولد بطل». «وفي كل طفلٍ.. تبدأ دولة».