عبدالرحمن المرزوقي

الرحمة هي المبدأ الأول الذي يبدأ به تفسير الدين وينتهي إليه. الفهم الديني الذي يتجاوز هذا المبدأ ولا ينطلق منه يقع في الكثير من الأخطاء تجاه الإنسان والحياة. الدين نزل للإنسان أولًا قبل كل شيء، نزل إليهِ رحمةً لا عقابًا. عندما يتم التركيز على العقاب في الدين يتحول الدين حينها إلى نمط ضد الإنسان. الإنسان بلا رحمة لا يُعتبر إنسانًا. فالحياة بلا رحمة تصبح جحيمًا. ولولا الرحمة لما كانت هناك أخلاق.

عندما ينطلق تفسير الدين من مبدأ الرحمة تتحقق غاية الدين التي تهدف إلى جعل حياة الإنسان في أحسن حال. نجد في كثير من الآيات في القرآن ما ينتهي بالتذكير برحمة الله، حتى عند ذكر العقاب أو الجزاء. ونجد رحمة الله وسعت كل شيء. ودائمًا ما يذكّرنا القرآن بالرحمة حتى لا ننسى هذا المبدأ، إذ من دونه لا يمكن للإنسان أن يهنأ بالعيش أو يرغد بالسلام.

التركيز على العقاب في فهم وتفسير الدين يصنع إيمانًا مبنيًا على الخوف، بينما التركيز على مبدأ الرحمة يصنع إيمانًا مبنيًا على الحب. الإيمان المبني على الخوف يجعل العلاقة بين الإنسان وربه متوترة، ويجعل المؤمن في حالة دائمة من القلق تجاه دينه. فعندما تكون العلاقة بين الإنسان وربه قائمة على الخوف، فإنها تصبح علاقة غير مطمئنة. يصبح المؤمن يمارس الدين فقط خوفًا من العقاب. هذه العلاقة غالبًا ما تكون غير حقيقية، حتى بين البشر، فعندما تكون علاقة الإنسان بغيره قائمة على الخوف، تصبح علاقة سطحية لا ترتقي إلى مستوى الحب، ولا يكون فيها إخلاص أو تفانٍ.

بينما الإيمان المبني على الرحمة يعمّق العلاقة بين الإنسان وربه، ويخلق طمأنينة دائمة في قلب المؤمن تجاه دينه، ويزيد من شعوره بالسلام الداخلي. عندما يستشعر الإنسان رحمة الله في الدين تصبح علاقته بربه أكثر دفئًا وطمأنينة، ويمارس دينه حبًا لا خوفًا. الرحمة تؤدي إلى الحب بالضرورة. كل علاقة مبنية على الرحمة تؤدي إلى الحب والتفاني والهيام. فما بالك بالعلاقة مع الله، التي تمثل قمة الحب العميق الذي يعيش الإنسان من أجله، ويغذي بها وجوده الناقص المحتاج للكمال الإلهي. أن تذهب إلى العبادة شوقًا إلى رحمة الله خير من أن تذهب إليها خوفًا من عقابه. العبادة في مقام الرحمة تتحول إلى صلة شوق بين الإنسان وربه، أما في مقام العقاب، فتكون جامدة خالية من الشعور الإيماني العميق.

تقديم الرحمة في فهم الدين يُعد المبدأ الجوهري والأساسي في أصول المعرفة الإيمانية، كما يقرر ذلك الفيلسوف عبدالجبار الرفاعي. عندما نقدم الرحمة في فهم كل آية في القرآن فإننا نتوجه نحو الحب والإيمان المطمئن بالله. ولو نظرنا لآيات العقاب في القرآن، لوجدنا أن القرآن يذكّرنا دائمًا برحمة الله في ختام كثير من الآيات. هذا التذكير دليل على أهمية إبقاء الرحمة حاضرة في فهم الدين. وجعل الرحمة المبدأ الأول والأخير في فهم الآيات وتفسير القرآن.

الرحمة غاية من غايات الدين الكبرى. فالدين أتى للأرواح قبل الأجساد، وللحب قبل العقاب، ولسعادة الإنسان لا لشقائه. علينا أن نعيد النظر في فهمنا السابق للدين، ونجعل الرحمة المرتكز الأول الذي ننطلق منه نحو الفهم السليم. اجتهاد العلماء السابقين يمثل عصرهم، الذي كان قائمًا على ثقافة العقاب وقسوة الحياة في ظل الحروب ودول الإمبراطوريات. أما في عصرنا الحالي فنحن نعيش في عصر القانون والنظام والعلم، مما يوجب علينا إعادة النظر في فهمنا السابق للدين، لنتجه نحو إيمان إنساني مبني على الرحمة والحب في المقام الأول.