إسلام حجازي

على مدى العقود الماضية أدت الثورات التكنولوجية المتسارعة إلى تغييرات عدة في شتى مناحي الحياة. فصعود كثير من التقنيات الرقمية لم يؤثر على كيفية تواصلنا أو وصولنا إلى المعلومات فقط، وإنما ترك تأثيره الأكبر على هندسة ديناميكيات القوة والمشهد الجيوسياسي العالمي. ويبدو أن مصطلح الإمبريالية الرقمية «Digital Imperialism» يلتقط جوهر هذا التحول الخطير، ويعكس كثيراً من الآليات المتطورة لهيمنة الدول الكبرى، لا سيما تلك الموجودة في شمال العالم، على الدول الأقل قوة في جنوبه.

هذا النمط الجديد من الإمبريالية لم يعد يرتكز على الغزو العسكري أو السيطرة السياسية المباشرة، بل أصبح يدور حول ترسيخ الفجوة الرقمية بين دول الشمال ودول الجنوب من خلال فرض السيطرة على البنية الرقمية الأساسية والبيانات والمعرفة التي أصبحت تشكل الأساس لكل القرارات في عالم اليوم.

الفجوة الرقمية

كشف تقرير صدر مؤخراً عن «الاتحاد الدولي للاتصالات» (ITU)، أن استخدام الإنترنت لا يزال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمستوى تنمية الدول. فعلى الرغم من أن ثمة ما يقرب من 67 % من سكان العالم الآن متصلين بالإنترنت، فإن هذه النسبة لا تتوزع بشكل عادل بين مناطق العالم المختلفة، حيث ارتفعت نسبة استخدام مواطني البلدان ذات الدخل المرتفع في العام 2023 لتصل إلى93 %، بينما بلغت هذه النسبة داخل البلدان ذات الدخل المنخفض %27 خلال الفترة ذاتها. يعكس هذا المؤشر البالغ 66 نقطة مئوية جزءاً من اتساع الفجوة الرقمية. ويبدو أن إحصاءات هذا التقرير لا تؤكد أن نسبة الأشخاص الموصولين في البلدان ذات الدخل المنخفض قليلة للغاية فحسب، بل تكشف أيضاً أنهم يستعملون قدراً أقل من البيانات، مقارنة بغيرهم في البلدان ذات الدخل المرتفع. وهذا يعني أنهم لا يستفيدون من كامل إمكاناتهم التوصيلية ولا يحققون فوائد التحول الرقمي.

ولا شك أن هذا التفاوت المركب يؤدي إلى إدامة دورات الجهل والفقر والحرمان، مما يحد من فرص الحراك الاجتماعي والاقتصادي لأكثر من 2.6 مليار شخص لا يزالون غير متصلين بالإنترنت، بل ويتعمق تدريجياً مع استمرار احتكار الدول المتقدمة لأغلب شركات التكنولوجيا العملاقة. ولا عجب أن تبلغ القيمة السوقية لأكبر خمس شركات تكنولوجية عالمية في نهاية النصف الأول من عام 2024 حوالى 13.86 تريليون دولار أمريكي (مايكروسوفت، وأبل، ونيفيديا، وألفابت، وأمازون)، والأهم أن أسماء هؤلاء الكبار تؤكد أن الولايات المتحدة تحديداً، لا تزال القوة العليا في أغلب قطاعات الاقتصاد الرقمي العالمي، وذلك على الرغم من وجود دول متقدمة أخرى مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان في مضمار المنافسة الدولية على إنشاء إمبراطوريات رقمية توسع من نفوذها.

آليات متعددة

إن إحدى الآليات الأساسية المستخدمة من قبل قوى الإمبريالية الرقمية هي الاستغلال الاقتصادي، حيث تستخرج الشركات التكنولوجية كثيراً من العمالة والموارد من دول الجنوب، بينما تقدم في المقابل القليل من العوائد. فأغلب عمالقة التكنولوجيا أصبحوا يستعينون بمصادر خارجية لجلب عمالة رخيصة من دول مثل الهند والفلبين، ليعملوا في بعض القطاعات الدنيا من مثل الإشراف على المحتوى وخدمة العملاء، مع حرص أهل الشمال على احتكار المعرفة والمهارات التكنولوجية المتقدمة التي تمكنهم من إبقاء دول الجنوب في حالة من التبعية الرقمية الدائمة. علي سبيل المثال، قد يحصل مهندس برمجيات أمريكي في شركة «ميتا» على راتب سخي يصل إلى نحو 250 ألف دولار أو أكثر سنوياً، وذلك في الوقت نفسه الذي لا يزيد فيه راتب زميله الهندي، الذي يعمل مشرف محتوى في الشركة نفسها على أكثر من 3500 دولار سنوياً.

من زاوية أخرى، الواضح أن سوق المعادن والفلزات العالمية أصبحت تتسم بالتركيز الجغرافي الشديد على مستوى الاحتياطات أو على مستوى أنشطة الاستخراج والمعالجة. تشير أرقام تقرير الاقتصاد الرقمي لعام 2024، إلى أن جمهورية الكونغو الديمقراطية أنتجت وحدها %74 من الكوبالت في العالم، بينما تشارك كل من أستراليا وتشيلي في إنتاج %72 من الليثيوم، وتشارك كل من الغابون وجنوب إفريقيا في إنتاج %59 من المنجنيز. في مقابل ذلك قامت دولة الصين بدور رئيس في المعالجة، حيث استأثرت وحدها بأكثر من نصف المعالجة العالمية للألمنيوم والكوبالت والليثيوم، وما يقرب من %100 بالنسبة إلى الغرافيت الطبيعي. والأخطر من ذلك أن البلدان النامية تتحمل حصة غير متناسبة من التكاليف البيئية للتصنيع التكنولوجي، حيث يرسل جزء كبير من النفايات الرقمية التي يتم فرزها في البلدان المتقدمة إليها.

يعد استعمار البيانات جانباً حاسماً آخر في تطور ظاهرة الإمبريالية الرقمية، حيث تتسابق أغلب شركات التكنولوجيا العملاقة من أجل الحصول على هذه السلعة الثمينة من مستخدمي التقنيات الرقمية، لا سيما في دول الجنوب، من دون موافقتهم أو حصولهم على تعويض مناسب في الأغلب الأعم؛ وهذا ما يضع هؤلاء المستخدمين في موضع كونهم مجرد نقاط بيانات مجانية، تتم معالجتها من أجل كسب كثير من الأموال من جانب، بل وربما يتم توظيفها أيضاً، بالمشاركة مع حكومات وأجهزة استخبارات دول الشمال، للتأثير على نتائج العمليات السياسية في بلدان الجنوب من جانب آخر. والمثال الأبرز على ذلك، هو الوثائق السرية التي سربها التقني الأمريكي «إدوارد سنودن» في عام 2013، حيث كشف فيها أن وكالة الأمن القومي كانت قادرة على الدخول المباشر إلى الخوادم الخاصة بعديد من شركات التكنولوجيا عبر برنامج تجسس رقمي عرف باسم «PRISM»، مما مكنهم من اختراق رسائل البريد الإلكتروني، ومحادثات الفيديو والصوت، والصور، والاتصالات الصوتية ببروتوكول الإنترنت، وعمليات نقل الملفات، وإخطارات الولوج، وتفاصيل الشبكات الاجتماعية، لأشخاص في الخارج وفي الداخل الأمريكي.

تتجلى الإمبريالية الرقمية أيضاً من خلال فرض الهيمنة الثقافية. فالمدارس والجامعات الموجودة في أغلب مناطق الجنوب، من الشرق الأوسط إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، شكلت مواقع مثالية لاستعراض عضلات عمالقة التكنولوجيا أمام حكومات دول تلك المناطق تحت لافتة دعم «الطلاب المحرومين رقمياً».

لكن الحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذا العطاء السخي يتم بهدف ضمان استخراج البيانات الطولية من مختلف أطراف العمليات التعليمية من دون أية عوائق تذكر. وغالباً ما يتم توظيف المعلومات الناتجة من تحليلها، بشكل يسهل السيطرة على المحتوى التعليمي المقدم. صحيح أن استخدام التقنيات الرقمية الجديدة قد يجعل التحول الثقافي الإيجابي من خلال التعليم والتعلم ممكناً، لكنه بالتأكيد لا يضمن حدوثه الفعلي أو اتجاهه أيضاً، لا سيما أن تقديم معظمها لا يزال مقتصراً على اتباع نهج «تغليف الهدايا»، بمعنى أنها تستخدم كإضافة للأطر والممارسات التقليدية الراسخة بدلاً من كونها حافزاً لإعادة التفكير في ما ينبغي أن تكون عليه عمليات التعليم والتعلم في القرن المقبل. هذا إضافة إلى نتائج عديد من الدراسات التي أكدت أن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا الغربية في هذه العمليات، يمكن أن يؤدي إلى تآكل التفكير النقدي لدى طلاب دول مناطق الجنوب، ما ينعكس سلباً على قدراتهم في مجال تحليل المعلومات وبناء الآراء بشكل مستقل.

الواضح من جانب آخر أن الثقافات المحلية للدول النامية أصبحت تتعرض لضغوط شديدة لفرض قيم ونماذج معينة عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات بث الفيديو المباشر عبر الإنترنت (OTT) مثل «نتفليكس» و»أمازون برايم فيديو» و»لولو» وغيرها.

ويبدو أن العرض المتزايد للوصول إلى الإنترنت، العريض النطاق في تلك الأسواق النامية، قد وفر فرصاً إضافية لتعزيز القدرة على تهميش السرديات والثقافات المحلية، لتحل محلها ثقافة عالمية تعطي الأولوية للقيم والمعايير الغربية. على سبيل المثال، حينما تصدرت الهند قائمة المشتركين في منصة «نتفليكس» بنحو 10 ملايين مشترك، واحتلت مرتبة متقدمة في نمو إيراداتها السنوية، وضعت شركة البث الأمريكية العملاقة استراتيجية لإنتاج محتوى ترفيهي خاص بها، كان آخرها ما كشفته في بداية عام 2024 حول نيتها لتقديم 22 عنواناً جديداً من الأفلام والمسلسلات، من أبرزها سلسلة وثائقية حول التنافس بين الهند وباكستان في لعبة الكريكيت، ومسلسلاً محدوداً حول اختطاف طائرة قندهار في العام 1999.

التحدي الكبير

من المؤكد أن آثار الإمبريالية الرقمية أصحبت مثيرة للقلق، لكن هذا لا ينفي إمكانية وجود بدائل متعددة للمقاومة. فمنذ عام 1990، عملت بعض الحركات الشعبية مثل «جمعية الاتصالات التقدمية» (APC) من أجل ضمان إتاحة الوصول إلى الإنترنت على نطاق واسع، ودعمت عديداً من المؤسسات القاعدية لاستخدام التكنولوجيا بهدف بناء قدرات المجتمعات المحلية والدفاع عن حقوقهم الرقمية، فضلاً عن دورها البارز في مراقبة السياسات الحكومية المتعلقة بالاتصالات والمعلومات للتأكد من أنها تخدم المصالح العامة للجمهور، لا سيما من هم في الجزء الجنوبي من العالم. علاوة على ذلك، يسعى كثيرون في المجتمعات المتضررة إلى العمل على محو الأمية الرقمية، وتعزيز تشريعات حماية البيانات، ودعم مبادرات التكنولوجيا مفتوحة المصدر، وتشجيع إنتاج المحتوى المحلي، وتطوير بدائل للمنصات الرقمية الكبرى.

ختاماً، يبقى التأكيد على أن العمل من أجل غلق «الشرايين الرقمية المفتوحة» لدول الجزء الجنوبي من العالم، وتقليل الآثار السلبية لهذه الظاهرة الخطيرة، سيظل تحدياً كبيراً يتطلب استجابة شاملة من مختلف الأطراف المعنية، وجهوداً تعاونية مستمرة وإرادة سياسية قوية لبناء أنظمة رقمية عادلة، تضمن أن تكنولوجيا الاتصالات والبيانات تستخدم في خدمة الإنسانية، بدلاً من أن تكون أداة جديدة للاستغلال وفرض السيطرة.

*كاتب وأكاديمي مصري

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية.