عبدالرحمن بدوي

المسرحية التي تمثل هذه الأيام في ملعب أنطوان بباريس، هي خير ما أنتج سارتر. إحكام صنعة فنية، وبراعة حوار، وإبداع تسلسل. بيد أن هذا كله كان على حساب التضحية بالجانب الفكري الذي ظل يمز حتى الآن ما أبدعه من قصص وتمثيليات على السواء، فضلاً عما في موضوعها من ميل صاحبها في العرض الأخير إلى أدلجة أمور تتصل بالمشاكل المصيرية الحية، والسياسية منها على وجه التخصيص، وهو ما يشاهد كذلك في المسرحيتين اللتين سبقتا هذه مباشرة، وهما «موتى بلا قبور» و«الماهر المهيبة»، ففي الأولى عرض لموضع المقاومة وما تستلزمه من قيم تتصل بالالتزام نحو الجماعة والرابطة العامة التي يتدرج الفرد فيها، وفي الثانية تصوير أخاذ لتلك المشكلة الأليمة التي يندى لها جبين الإنسانية، مشكلة معاملة الزنوج والشعوب الملونة عامة. ولهذا فليس لنا أن ننتظر من مسرحيتنا هذه تلك العبارات المنحوتة المليئة بالمفارقات في أغلب الأحيان مما تراه واضحاً في بقية قصص سارتر وتمثيلياته. وإذا كان لنا أن ننشد فيها أفكاراً، نتلمسها حية في أشخاص تجسدوها

وكانت فعالهم- أكثر من أقوالهم- خير تعبير عنها. وما من مراء في أن هذا النحو هو الأوفق انطباقاً على فن المسرح، بوصفه فناً خالصاً.

وخلاصة هذه المسرحية أنه حدث في بلد يغلب، على الظن أنه من بلاد البلقان، إن كان فيه صراع بين فريقين من أبنائه: فريق- يتزعمه الوصي على العرش- يدعو إلى التفاهم مع الدولة المحتلة (ألمانيا)، والآخر اشتراكي النزعة يقاوم منتظراً الخلاص لنفسه ولبلاده على يد الدولة المعادية لتلك الدولة المحتلة. وهنا وقع الخلاف في الرأي بين أبناء الفريق الاشتراكي.

فنفر رأى أن الظروف تدعو إلى المسالمة في هذه اللحظة مع الفريق الآخر حتى يتم النصر للدولة المحالفة لحزبهم، وهناك يكونون أصحاب الأمر المطاق فيتحكمون في الآخرين كما يشاؤون، ونفر آخر يرى الخيانة كل الخيانة في هذه المسالمة، لأنهم يرون أن الأمر أمر مبادئ. لا تحقيق منافع عملية أو بلوغ قصد مادي محدود. والنفر الأول عقد لواؤه Ioederer. لهذا رأى النفر الآخر أنه لا بد من القضاء عليه حتى لا تقع تلك الخيانة، فعقدوا العزم على اغتياله، ووجدوا أن هذا الأمر يمكن أن يوكل إلى أحدهم وهو هوجر Hugo، وإن توجسوا منه خيفة لأنه شاب نظري من رجال الفكر لا العمل، لا هم له إلا اتخاذ مواقف خاصة، ولأنه بورجوازي لا يعمل إلا إذا لذ له العمل، ويهجر العمل من أجل نعم أولا.

1949*

* أكاديمي ومترجم مصري (1917 - 2002).