المهدي مستقيم

يواصل الباحث المغربيّ الدكتور محمّد الشيخ، منذ ثلاثة عقود ونيّف، سعيَه الحثيث من أجل ضخّ روحٍ جديدة في الفلسفة العربيّة، التي لطالما اصطدمت بعوائق تسبَّبت في غبْنها ومأساتها. ولعلّ من بين أبرز هذه العوائق، اختزالها في مستوى الأسماء المعروفة: فلاسفة المشرق (الكندي، الفارابي، ابن سينا) في مقابل فلاسفة المغرب (ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد) من جهة، واختزالها في مستوى الموضوعات المطروقة من جهة أخرى.

يقول محمّد الشيخ: «ثمّة صورة تكاد تكون نمطيّة عن الفلسفة الإسلاميّة، من فرط ما تُدووِلَت بيننا، والتي قد تكون أَسهمت إسهامًا بالغًا في إشاحة نظر مُجايلينا، خاصّة الشباب منهم، عن الرغبة في الاطّلاع على مضامين هذه الفلسفة، فضلًا عن البحث في مظانّها [مصادرها].

فأنتَ لا تكاد تَجِد شابًّا في العالَم العربي - ما لم يضطرّه هاجسٌ أكاديمي أو بحثي إلى ذلك - يمدّ يده إلى رفّ مكتبة، أو يتردّد على موقعٍ إلكتروني كي يجني منه زهرةً من زهرات الفلسفة الإسلاميّة.

وما زال الأمر على حاله من السوء حتّى ألفينا أنفسنا - معشر أبناء هذا الزمان من العرب والمُسلمين - لا نُصادف فلاسفة الإسلام إلّا في تسمية شوارعنا أو مُستشفياتنا أو مَدارسنا أو دُور نَشرنا، كأن نقول مستشفى ابن سينا أو جامعة ابن رشد أو دار الفارابي للنشر...إلخ. ولو أنّك جازفتَ بأن سألتَ أغلب مَن يتردّدون على هذه المرافق عن الاسم الذي تحمله، لرجح الظنّ أنّه لا علم له بمَن يكون، حتّى وإن علم بمَن هو، ولَما ذَكَرَ كتابًا له وإن ذكره، لما كان قرأه» (محمّد الشيخ، المُبهج في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، سلطنة عُمان، وزارة الأوقاف الدّينيّة، ص9).

فضلًا عن مشكلة الكُتب المنحولة: التفّاحة (أثولوجيا) والخَير المحض، وسرّ الأسرار، والأبيات المذهبيّة...إلخ، التي أسفرت عن تشويه نظريّة الوجود الفلسفيّة العربيّة بعوالق الفيضيّات، وهدْر طاقة فلاسفة الإسلام في إيجاد حلٍّ لإشكال معتاد: التوفيق بين أرسطو وأفلاطون. ومشكلة الترجمة، إذ لم تكُن الترجمات كاملة شاملة على إثر ضياع المخطوطات من جهة، وعدم الترجمة عن الأصل من جهة أخرى، فكُتب الفلسفة اليونانيّة لم تُنقل إلى العربيّة من اليونانيّة مباشرة بل بتوسُّط السريانيّة.

يقول التوحيدي: «على أنّ الترجمة من لغة يونان إلى العبرانيّة، ومن العبرانيّة إلى السريانيّة، ومن السريانيّة إلى العربيّة، قد أخلَّت بخواصّ المعاني وأَبدلت الحقائق إخلالًا لا يخفى على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب، مع بيانها الرّائع، وتصرّفها الواسع، وافتتانها المعجز، وسعتها المشهورة لكانت الحكمة تصل إلينا صافيةً بلا شوائب، وكاملةً من دون نقصان. أو لو كنّا نفقه من الأوائل إغراضهم بلغتهم، لكان ذلك أيضًا ناقعًا للغليل، وناهجًا للسبيل، ومُبلِغًا إلى الحدّ المطلوب» (المُقابسات).

وفي جوابٍ من أجوبة الفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون إلى شموئيل بن تبون (مُترجِم كِتاب دلالة الحائرين)، وَرَدَ ما يلي: «ومَن تَرْجَمَ ترجمةً حَرفيّة من لغةٍ إلى أخرى فهو غير موفَّق: لأنّه إنّما يُحافظ على نظام الكلمات والجُمل غير آبه بما في الترجمة على هذا النحو مطلقًا. أمّا الوجه الأفضل، فهو أن يَفهم المُترجِم موضوعَ الترجمة فَهمًا دقيقًا، ثمّ يُترجِم من دون أن يَعبأ بتقديم كلمة أو تأخير أخرى، كما لا يبالي بأنّ الترجمة تكون على أسلوبٍ معيّن، إذ له الحقّ في أن يصوغها موجَزةً أو مطوّلة، لأنّ الغَرَضَ الأسمى هو أن تكون الترجمة كاملةً صحيحة، كما فعلَ إسحاق بن حنين في ترجمة مصنّفات أرسطو» (ولفسون: ابن ميمون).

في الحاجة إلى استرداد الفلسفة العربية

كان تاريخنا قاسيًا على جملةٍ من الأسماء العظيمة، إذ ما بَرح يتحاشى ذِكرَها ذكرًا، ويَزْوَرُّ عن النّظر في تأليفها ازورارًا، فضلًا عن فقداننا أعمالًا عدّة لم تُحفظ إلّا في لغاتٍ أجنبيّة (العبريّة، اللّاتينيّة)، فثلاثة أرباع كتب ابن رشد مفقودة أو ضاعَ أصلها العربي، بل ضاعت منّا نصوصُ فلاسفة من مُختلف الملل (نصرانيّة، يهوديّة، صابئيّة، مانويّة، مزدكيّة) عاشوا في الحضارةِ العربيّة الإسلاميّة وألَّفوا بلسانها (اللّسان العربي). يقول محمّد الشيخ: «كَم من فيلسوفٍ كبير لم تَحفظ لنا منه كتبُ التراجم ولا بطون كُتب الفلسفة اللّهمّ إلّا سطرَيْن، بل سطرًا، بل أقلّ من سطر.

يذكر لنا أبو حيّان التوحيدي، في كتاب «المُقابسات»، أنّه «كان ذا حظٍّ وافِر من الحِكمة»، فتِّش أنتَ عن كتبه، بل عن فِقَرِهِ، بل عن آرائِه، لن تجدَ قد نُقل عنه اللّهم إلّا رأيٌ واحد: حيرته في مآل النَّفس حال الموت... فإنّ هاهنا [في الحضارة الإسلاميّة] مَن يتفلسف وهو نصراني الملّة كحنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين ويحيى بن عدي وابن زرعة وابن الخمار... وها هنا مَن يتفلسف وهو يهودي النحلة، كأبي الخير بن يعيش وابن كمّونة وابن جبرول وابن عزرا وابن ميمون وابن باقودة... وها هنا مَن يتفلسف وهو صابئي المذهب كثابت بن قرّة وأبي إسحاق وأبي الخطاب الصابئي... وها هنا مَن يتفلسف وهو مُسلم كالكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد، من المعروفين، وكأبي زيد البلخي وأبي الحسن العامري والنوشاجي وأبي البركات البغدادي والداماد...إلخ من الذين لا يكادون يُعرفون، وكالسجستاني والسهروردي والملّا صدرا الشيرازي، ممَّن هُم بين المعرفة بهم وعدم المعرفة» (محمّد الشيخ، المبهج في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص10-11).

الفلسفة العربية ورهان إماطة الغبن عنها

تزخر كُتب الفلاسفة العرب بموضوعاتٍ متنوّعة ومُختلفة من قَبيل: الغَير، الصداقة، العشق، الحزن، الفرح، اللّذة، الموت...إلخ. ومن أجل ذلك أكبَّ الكاتب محمّد الشيخ على محاولة إزالة الغبن الذي ما بَرح يخيِّم على موضوعات الفلسفة العربيّة، على إثر اختزالها في قضايا أقلّ ما يُمكن أن نقول عنها إنّها قضايا مسكوكة، لقد حان الوقت من أجل دَرء غبن «اختزال (موضوعات) الفلسفة العربيّة الإسلاميّة على ثرائها في مسائل محدودة نَضحت (فقدت لونها وبريقها ووهجها) من فرطِ لَوْك الكلام فيها: موضوع العقل والنقل، موضوع نظريّة الفيض، موضوع المدينة الفاضلة...إلخ» (محمّد الشيخ، المبهج في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص13).

لا يستحيي البعضُ ممَّن لم يأنسوا نصوص الفلسفة العربيّة الإسلاميّة من تهويل اللّفظ، إذ لا يتورّعون عن السخرية منها، الأمر الذي ينمّ عن جهلهم بما تنطوي عليه مصنّفات فلاسفة بلاد الإسلام من جهدٍ فكري يرمي إلى فَهم الإنسان العربي ودرْكِ وجوده وواقعه ومُجتمعه ومحيطه بتوسُّل العقل. يقول ابن رشد: «الفلاسفة طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم، لا مُستندين إلى قَول مَن يدعوهم إلى قوله من غير برهان» (تهافُت التهافُت). ويقول أبو الحسن العامري: «قد قلنا، فيما سلف، إنّ الحكمة لا تُنال إلّا بترْكِ أكثر الخيرات [الماديّة] والفضائل [الاجتماعيّة] ومن فَعل ذلك عند الناس على غاية البدعة والمذهب الغريب المنكر: لأنّ إنكار هذه الخيرات والرغبة في فعل هذه الفضائل هي الإنسانيّة، فمن زهد فيها فإنّه عند الناس ليس بإنسان إنّما يعزون ويكرّمون من رغب في الممدوحات معمل الصالحات ووافق أهل الخير وكان على مثل سيرهم، ومَن كان على خلافِ ذلك أهانوه وأذلّوه واستخفّوا به وحقّروه، وربّما قصدوه بالكاره في نعمته وفي من يتّصل به في بَدنه حتّى الضرب والقتل. ومن أعظم المِحن عليه أنّه ليس يمكنه أن يقنعهم بالحجّة؛ لأنّه ليس بمُمكن مخاطبة مَن ليست معه الأمور الإنسيّة، فضلًا عن الألفة، فأيّ حَدَثٍ وأيّ شيخ يصبر على المهانة والمذلّة وعلى الخوف الدائم من الأضرار والجسارة وعلى الغرامة والعقوبة؟» (السعادة والإسعاد).

لا يُمكن إلّا لجاحدٍ أن ينكرَ قيامَ الفلسفة العربيّة على مسعى تنويري، إذ ما برحت تحثّ الإنسان على البحث في أسباب الأشياء ومُجابهة مساعي تحريمها وتجريمها. على أنّ البحث في أسباب الأشياء هو ما يَجعل الإنسان إنسانًا، يقول ابن باجة: «فإنّ الإنسان بالطبع يتشوّق إلى معرفة الأسباب، ويبحث عنها ويسأل حتّى في الأمور المحسوسة عن الأسباب الجزئيّة. ومثال ذلك بيِّنٌ في كلّ مصنوعٍ وفي كلّ طبيعي» (تدبير المتوحّد). والحال أنّ قوام خصّيصة الإنسان هي الاستفهام والتعجُّب: «إنّ مَن لم يَستكبر [يجد كبيرًا مهولًا جليلًا] ويستغرب هذا العالَم ولم يتعجّب من هيئته ولم تتطلّع نفسه إلى معرفة جميع ما فيه ولم يهتمّ ويُعنى بتعرُّف ما تؤول إليه الحال بعد الموت، فنصيبه من النطق نصيب البهائم، لا بل الخفافيش والحيتان والخشار [الرديء الدون من كلّ شيء] التي لا تفكّر ولا تتذكّر البتّة» (تدبير المتوحّد).

ومن أجل ذلك، كان منطلق الفلاسفة في بلاد الإسلام الفحص والاستقصاء والانتقاد لا الاعتقاد الأعمى، إذ لم يَحملوا أنفسهم قطّ على الاعتقاد من دون فحصٍ وتفكُّرٍ وتبصُّر. يقول الفيلسوف اليهودي المصري سعيد الفيّومي: «الجاهل الذميم مَن جَعَلَ اعتقادَه هو الأصل وقدَّر أنّ حقائق الأشياء تتبع اعتقاده، ومع جهله فهو يَثِقُ إلى المحذور ويحذِّر من الموثوق، وهو العِلم الذي شغله النّظر في المعلومات وتحريرها حتّى نعتقدها على ما تتهندس وتتمكّن». (الأمانات والاعتقادات). وهو الأمر الذي عبَّر عنه محمّد الشيخ بأسلوبٍ لا يخلو من رشاقة: «انطلقتِ الفلسفةُ العربيّة الإسلاميّة ناظرةً باحثة، مفتِّشة ناقدة، مُراجِعة فاحِصة. فما كاد يفوت فلاسفة العرب والإسلام مجالًا من مجالات عيش أو معاناة الإنسان إلّا وطرحوا الأسئلة عنه» (محمّد الشيخ، المبهج في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص15).

لقد دأبتِ الفلسفةُ في بلاد الإسلام على إخضاع الكَونيّات لمحكّ السؤال والفحص (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن الجوزي، أبو حيّان التوحيدي...إلخ)، فضلًا عن تساؤلها وفحْصها أصل النفسانيّات وفصْلها (الضحك، الجنون، الانتحار، الذاكرة، النسيان، المرض النفسي...إلخ)، فهذا قول التوحيدي في الضحك: «سألتُ أبا سليمان عن الضحك: ما هو؟ فأملى، فقال: الضحك قوّة ناشئة بين قوّتَيْ النطق والحيوانيّة، وذلك أنّه حالٌ للنفس باستطرافِ واردٍ عليها. وهذا المعنى متعلّق بالنطق من جهة، وذلك الاستطراف إنّما هو تعجُّب، والتعجُّب هو طلب السبب والعلّة للأمر الوارد. ومن جهة يتبع القوّة الحيوانيّة عندما تنبعث من النّفس، فإنّها إمّا أن تتحرّك إلى داخل، وإمّا أن تتحرّك إلى خارج. وإذا تحرّكت إلى خارج، فإمّا أن يكون ذلك دفعة، فيحدث منها الغضب، وإمّا أوّلًا فأوّلًا وباعتدال، فيحدث السرور والفرح، وإمّا أن تتحرّك من خارج إلى داخل دفعة، فيحدث منها أحوال: أحدها: الضحك، عند تجاذُب القوّتَيْن في طلب السبب، فيحكم مرّة أنّه كذا ومرّة أنّه ليس كذا، ويسري في ذلك الروح حتّى ينتهي إلى العَصَب فتتحرّك الحركتَان المُتضادّتَان، وتعرض منه القهقهة في الوجه لكثرة الحواسّ، ويعلق العصب بواحدٍ واحد منها» (التوحيدي: المُقابسات). وهذا قول الحكيم التنويري العُماني أبو محمّد عبدالله بن محمّد الأزدي (ابن الذهبي) في الماليخوليا (داء الحزن والخوف): «وقال بعض الأطبّاء إنّ الماليخوليا قد تحصل عن الجنّ، ونحن من حيث صنعة الطبّ لا نلتفت إلى ذلك، ونقول: إنّ سببها استحالة المزاج بالهمّ إلى السوداء، أو غلبة الصفراء أو الدمّ الغليظ، أو البلعم».

إهمال الفلسفة العربية ونسيانها

وتأسيسًا عليه ما انفكّ الكاتب محمّد الشيخ يزاول عمليّة الحفر الجينيالوجي في تراثنا المُشرِق قصد تنقيحه من سائر التصوّرات المُبتذلة التي طالما هَيْمَنت عليه هيمنةً تسبَّبت في غبنه: «ليس يُمكن أن نُقبل على ما يُعَدّ -من الناحية العلميّة- (ميتًا) في زماننا، فلقد ولّى زمنُ دراسة الفيض وعدد العقول السماويّة والعقل الأوّل والثاني وتسلسل العقول...إلخ، وإنّما الجانب الذي لا يزال يحيا فينا -وليس نحيا فيه- هو جانب الفلسفة الأخلاقيّة الذي يتعلّق بإنسانيّة الإنسان من حيث هو إنسان، وباجتماعيّته من حيث ما هو كائن اجتماعي بالطبع، وبحسّه المعرفي، من حيث هو مُستكشِفٌ للغزِ هذا العالَم الذي وُجد فيه، وبحسّه الأخلاقي، من حيث وجود الخَير والشرّ معًا في عالَمه، فضلًا عن أحواله النفسيّة، من فَرحٍ وحزن، وعشق وبغض، ورجاء وخوف...إلخ؛ فهذه هي الموضوعات التي غُيِّبت وأُهملت ونُسيت في الفلسفة الإسلاميّة بتعلّاتٍ عدّة، منها: أنّها ضربٌ من «الفلسفة الشعبيّة» التي لا ترقى إلى مستوى «الفلسفة العالِمة». وقد سبق أن نبَّهنا في غير ما مرّة إلى أنّ الفلسفة الأخلاقيّة العربيّة الإسلاميّة تُعَدّ من أشدّ الحقول تعرُّضًا إلى الإهمال لجهة العناية بها، فقد فُقدت عديدٌ من نصوص هذه الفلسفة، وطوى نصوصًا أخرى الإهمالُ والنسيانُ. ومن بعض أسباب الإهمال، تقليد التقليعات الفلسفيّة الغربيّة، الذي أتى عليها حينًا من الدهر أركن الفلسفة الخلقيّة في ركنٍ ركين. ويكفي أن نُقارِن الفلسفة الأخلاقيّة العربيّة والإسلاميّة بأختها في الرضاعة الفلسفة السياسيّة، حتّى يتبيَّن الاهتمام -النسبي- بهذه، والإهمال شبه المطلق» (محمّد الشيخ، المبهج في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص59).

*أكاديمي من المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.