في كتاب (أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري: سيرته.. فلسفته.. معاركه) فاجأني الشيباني بأنه لخص موقفي من منهج الغذامي وحدد سر إشكالي مع هذا المنهج، إنها (المادية الميكانيكية ومآلاتها الجبرية)، وكنت أعجب بنفسي عندما يقول لي محمد زايد الألمعي: ملاحظاتك قريبة من بعض ملاحظات الشيباني، وكنت أظن ذلك إطراءً من (العرَّاب الألمعي)، فإذا به تلميح لطيف لاحتمال اطلاعي على ما دونه الشيباني بهذا الشأن، لكن بعد أن قرأت الكتاب ازداد علمي بمدى جهلي وزاد عمق احترامي الذي أوردته في مقال (اعتذار إلى جيل الثمانينيات) حين قلت: (حرارة فرن الثقافة أيام الصحوة أخرجت لنا ما نسميه «مثقفي الثمانينيات» وما زال هذا الجيل حتى الآن يمثل في رأيي «متن الثقافة» وما جاء بعدهم ــ كاتب المقال من هؤلاء البعد ــ ليس إلا تهميشات بارعة في حذلقتها على جدران تاريخهم، وهم مع سابقيهم من جيل «حمزة شحاته» مثلنا معهم).
أشير إلى أن الغذامي حاول توسيع دائرة المنتمين (للنقد الألسني) في رده على الشيباني بأن أشار إلى: (عابد خزندار، سعيد السريحي، عثمان الصيني، عالي القرشي..) راجع ص 354، لكن الكتاب لم يعرض سوى ردود ومداخلات (عبدالله الغذامي، سعيد السريحي، قينان الغامدي، تركي الحمد)، تعجبت لهذا المستوى الفكري العالي لجميع المشتبكين مع الشيباني (كلٌ بحسبه)، وسر عجبي أنهم لم يعودوا الآن يكتبون بهذا المستوى.
طبعًا على مستوى الردود في مسألة البنيوية ــ من وجهة نظري ــ كان سعيد السريحي أقوى من الغذامي في ردوده على الشيباني، ولأن موقفي من (هيغل) قريب من موقف (تركي الحمد) فلن أقول: لقد كان تركي الحمد أقواهم في الدفاع عن فكرته، غير (هيَّاب) لسوط (التكفير الضمني) الذي يفرقع به الشيباني في ثنايا كلامه ليرهب من يناقشه، بينما الأكيد عندي إلى حد يقترب من اليقين، أن الشيباني كان يفرقع بالسوط ما باطنه خلاف ظاهره، حيث يظهر السوط ويفرقعه في كل كتاباته التي (لولا سلوكه هذا الأسلوب) لما استطاع تمرير خلاصاته (الماركسية الخاصة) مثلًا، وأقول (الخاصة) بسبب تمسكها بأهداب الدين والعروبة، وعجبي ممن يظن في هذا تناقضًا!؟ هل نسينا أن (لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية) أيضًا ارتبط بالدين وله قراءته الخاصة التي لا تنفي انتماءها للماركسية، فكيف نستنكر على الشيباني وعيه الماركسي وهواه التراثي العربي.
الشيباني له فضاءاته الخاصة في (المادية التاريخية/الديناميكية) والتي تتحسس من (المادية الميكانيكية) وسبب ذلك أن المادية التاريخية بالمعنى ــ الذي أفهمه ــ مفتوحة على الاحتمالات وتشمل المادي والمعنوي، وتحويلها إلى (مغلق/جبرية) لا يتناسب والشخصية التي تكره كل ما يؤدي إلى (السكونية الاجتماعية) وفق (أنساق مغلقة تعيد إنتاج نفسها) وفي نظري أن تماسك منهجية النسق التي يدعيها الغذامي مرتبطة بمواصفات (العقل الجمعي) الذي يضرب فيه توفيق السيف بمعوله الفكري عبر مقالاته في الشرق الأوسط مستعينًا بتراث ممتد من (ابن خلدون) حتى (الجابري) لمحاولة فك جمود (العقل العربي) من سكونيته الحضارية و(مسكونيته) الكهنوتية، ولو (أفاق) لسقط النسق وتدحرج الغذامي لأرشيف التاريخ، فالغذامية ظاهرة فكرية قائمة لظروف موضوعية تخص العالم العربي، وجذر خلاف الشيباني مع الغذامي ورفاقه ــ من وجهة نظري ــ أن نقدهم مبني على أنساق تخالف منهجيته في (المادية التاريخية) فقط، وما وراء ذلك جبر لخواطر الكهنوت، وذر رماد في عيون الدهماء.
إعجابي بأحمد الشيباني جعلني أراه بطفولة تضعه في مقام (أسطورة هرقل) والسبب بسيط، هو تعلقي الوجداني بمن اجتمع فيه (النظرية والممارسة) فما اجتمعت في شخص إلا واكتمل فيه الشرط الثقافي (الدسم)، لا أقصد (التنظير كقول/الفلسفة المثالية) بل أقصد (الممارسة كفعل/الفلسفة المادية) فتحولاته الفكرية تصحبها تحولات عملية حياتية على مستوى التاريخ والجغرافيا، لقد عاش الشيباني الحياة وفق (المادية التاريخية) وشرطها (الديالكتيكي) الخلاق، ومارس الكتابة مؤمنًا بالهوية العربية والدين الإسلامي، لكن ــ من وجهة نظري ــ كانتا في عقله تحت قانون (الديالكتيك) الخلاق، ولولا هذا الديالكتيك لما حصلت تحولاته ولبقي ماركسيًا متحجرًا ديناصوريًا، لقد كتب كل مقالاته في آخر حياته ــ من وجهة نظري ــ وفق تقنيات تحدث عنها ليو شتراوس في كتاب (الاضطهاد وفن الكتابة)، وآثر م. ميلزر في كتابه (الفلسفة بين السطور) ــ راجع مقالة سعد البازعي عن الكتابين بمجلة الفيصل 16 مارس 2016 بعنوان (الفلسفة بين السطور وخوف المعرفة) ــ ولهذا عاش الشيباني معززًا مكرمًا لكنه كتب وحياته قد ملأتها (النصال على النصال) ليس بالمعنى الرومانسي بل بالمعنى (السياسي الخشن) في أربعينيات القرن الماضي ومآلات زعيم حزبه فيصل العسلي وهروب الشيباني إلى شرق الأردن واعتقال رفاقه، ووضع العسلي في سجن المزة، راجع كتاب محمد السيف (أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري ص28) مما جعله يتميز بالشجاعة الأدبية في أعلى تجلياتها مع النخبة، مع الخوف الشديد من الغوغاء والتحذير منهم مما جعل محنة سقراط موضوعًا أثيرًا في نفس الشيباني (وفق وصف الغذامي ص16 من حكاية الحداثة) ولهذا التزم الشيباني طيلة حياته بما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب (أفلاطون: آخر أيام سقراط)، فرغم أن سقراط ابن أثينا ميلادًا ووفاة، إلا أن الشيباني رأى في حكمته قانونًا عامًا يخص كل فرد يقرر العيش في بلد والانتماء إليه، يقول الشيباني ص11 من كتاب «آخر أيام سقراط»: (فسقراط يرى لا بل يؤمن بأن أي فرد يقبل العيش في بلد ما، يكون قد قطع بذلك على نفسه عهدًا بمراعاة قوانين ذاك البلد والتقيد بجميع أحكامه، إذ يكون قد تعاهد وقوانين البلد على العيش وإياها في وفاق وانسجام دائمين، ولذا يتوجب عليه ضميرًا وأخلاقًا أن يفي بعهده ويقوم بتعهداته...). وتبقى مقاربتي مجرد ــ وجهة نظر ــ في أنه صنع ديالكتيكته الخاص، وفق تقلبات الظروف، حاملًا على كتفيه (وعيًا يساريًا عاليًا، موقفًا يمينيًا محافظًا) فلم يخن وعيه، ولم يخسر موقفه.
أشير إلى أن الغذامي حاول توسيع دائرة المنتمين (للنقد الألسني) في رده على الشيباني بأن أشار إلى: (عابد خزندار، سعيد السريحي، عثمان الصيني، عالي القرشي..) راجع ص 354، لكن الكتاب لم يعرض سوى ردود ومداخلات (عبدالله الغذامي، سعيد السريحي، قينان الغامدي، تركي الحمد)، تعجبت لهذا المستوى الفكري العالي لجميع المشتبكين مع الشيباني (كلٌ بحسبه)، وسر عجبي أنهم لم يعودوا الآن يكتبون بهذا المستوى.
طبعًا على مستوى الردود في مسألة البنيوية ــ من وجهة نظري ــ كان سعيد السريحي أقوى من الغذامي في ردوده على الشيباني، ولأن موقفي من (هيغل) قريب من موقف (تركي الحمد) فلن أقول: لقد كان تركي الحمد أقواهم في الدفاع عن فكرته، غير (هيَّاب) لسوط (التكفير الضمني) الذي يفرقع به الشيباني في ثنايا كلامه ليرهب من يناقشه، بينما الأكيد عندي إلى حد يقترب من اليقين، أن الشيباني كان يفرقع بالسوط ما باطنه خلاف ظاهره، حيث يظهر السوط ويفرقعه في كل كتاباته التي (لولا سلوكه هذا الأسلوب) لما استطاع تمرير خلاصاته (الماركسية الخاصة) مثلًا، وأقول (الخاصة) بسبب تمسكها بأهداب الدين والعروبة، وعجبي ممن يظن في هذا تناقضًا!؟ هل نسينا أن (لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية) أيضًا ارتبط بالدين وله قراءته الخاصة التي لا تنفي انتماءها للماركسية، فكيف نستنكر على الشيباني وعيه الماركسي وهواه التراثي العربي.
الشيباني له فضاءاته الخاصة في (المادية التاريخية/الديناميكية) والتي تتحسس من (المادية الميكانيكية) وسبب ذلك أن المادية التاريخية بالمعنى ــ الذي أفهمه ــ مفتوحة على الاحتمالات وتشمل المادي والمعنوي، وتحويلها إلى (مغلق/جبرية) لا يتناسب والشخصية التي تكره كل ما يؤدي إلى (السكونية الاجتماعية) وفق (أنساق مغلقة تعيد إنتاج نفسها) وفي نظري أن تماسك منهجية النسق التي يدعيها الغذامي مرتبطة بمواصفات (العقل الجمعي) الذي يضرب فيه توفيق السيف بمعوله الفكري عبر مقالاته في الشرق الأوسط مستعينًا بتراث ممتد من (ابن خلدون) حتى (الجابري) لمحاولة فك جمود (العقل العربي) من سكونيته الحضارية و(مسكونيته) الكهنوتية، ولو (أفاق) لسقط النسق وتدحرج الغذامي لأرشيف التاريخ، فالغذامية ظاهرة فكرية قائمة لظروف موضوعية تخص العالم العربي، وجذر خلاف الشيباني مع الغذامي ورفاقه ــ من وجهة نظري ــ أن نقدهم مبني على أنساق تخالف منهجيته في (المادية التاريخية) فقط، وما وراء ذلك جبر لخواطر الكهنوت، وذر رماد في عيون الدهماء.
إعجابي بأحمد الشيباني جعلني أراه بطفولة تضعه في مقام (أسطورة هرقل) والسبب بسيط، هو تعلقي الوجداني بمن اجتمع فيه (النظرية والممارسة) فما اجتمعت في شخص إلا واكتمل فيه الشرط الثقافي (الدسم)، لا أقصد (التنظير كقول/الفلسفة المثالية) بل أقصد (الممارسة كفعل/الفلسفة المادية) فتحولاته الفكرية تصحبها تحولات عملية حياتية على مستوى التاريخ والجغرافيا، لقد عاش الشيباني الحياة وفق (المادية التاريخية) وشرطها (الديالكتيكي) الخلاق، ومارس الكتابة مؤمنًا بالهوية العربية والدين الإسلامي، لكن ــ من وجهة نظري ــ كانتا في عقله تحت قانون (الديالكتيك) الخلاق، ولولا هذا الديالكتيك لما حصلت تحولاته ولبقي ماركسيًا متحجرًا ديناصوريًا، لقد كتب كل مقالاته في آخر حياته ــ من وجهة نظري ــ وفق تقنيات تحدث عنها ليو شتراوس في كتاب (الاضطهاد وفن الكتابة)، وآثر م. ميلزر في كتابه (الفلسفة بين السطور) ــ راجع مقالة سعد البازعي عن الكتابين بمجلة الفيصل 16 مارس 2016 بعنوان (الفلسفة بين السطور وخوف المعرفة) ــ ولهذا عاش الشيباني معززًا مكرمًا لكنه كتب وحياته قد ملأتها (النصال على النصال) ليس بالمعنى الرومانسي بل بالمعنى (السياسي الخشن) في أربعينيات القرن الماضي ومآلات زعيم حزبه فيصل العسلي وهروب الشيباني إلى شرق الأردن واعتقال رفاقه، ووضع العسلي في سجن المزة، راجع كتاب محمد السيف (أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري ص28) مما جعله يتميز بالشجاعة الأدبية في أعلى تجلياتها مع النخبة، مع الخوف الشديد من الغوغاء والتحذير منهم مما جعل محنة سقراط موضوعًا أثيرًا في نفس الشيباني (وفق وصف الغذامي ص16 من حكاية الحداثة) ولهذا التزم الشيباني طيلة حياته بما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب (أفلاطون: آخر أيام سقراط)، فرغم أن سقراط ابن أثينا ميلادًا ووفاة، إلا أن الشيباني رأى في حكمته قانونًا عامًا يخص كل فرد يقرر العيش في بلد والانتماء إليه، يقول الشيباني ص11 من كتاب «آخر أيام سقراط»: (فسقراط يرى لا بل يؤمن بأن أي فرد يقبل العيش في بلد ما، يكون قد قطع بذلك على نفسه عهدًا بمراعاة قوانين ذاك البلد والتقيد بجميع أحكامه، إذ يكون قد تعاهد وقوانين البلد على العيش وإياها في وفاق وانسجام دائمين، ولذا يتوجب عليه ضميرًا وأخلاقًا أن يفي بعهده ويقوم بتعهداته...). وتبقى مقاربتي مجرد ــ وجهة نظر ــ في أنه صنع ديالكتيكته الخاص، وفق تقلبات الظروف، حاملًا على كتفيه (وعيًا يساريًا عاليًا، موقفًا يمينيًا محافظًا) فلم يخن وعيه، ولم يخسر موقفه.