عبدالله العلويط

أعطى الإسلام العقل مكانة عالية ولم يستثن مجالا من دخوله إليه إلا الغيبيات المحضة المتعلقة بالعالم العلوي والأحكام القطعية، أما الأحكام الفقهية فالاستنباط يشكل ثقلا بها، بل إن مدار الاجتهاد على العقل أكثر من النقل، فالمجتهدون يتمايزون بحسن أعمال العقل وليس بجودة العثور على النقل خاصة الروائي منه.. وقد نقل ابن تيمية عن ابن حنبل رحمهما الله قوله «معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلى من حفظه» الفتاوى 12/ 81، وهذه المكانة للعقل قد عرفت من اهتمام القرآن بالعقل من خلال الدلالات.. أي دلالة المخلوقات على الخالق باستخدام العقل، ومن خلال الآيات التي تتكرر بها مفردة الألباب والنهى والبصائر. ولا يمكن أن يكون بهذا الوزن ثم يكون أقل من غيره.. والعجيب أن كل المذاهب الإسلامية تستخدم العقل لإثبات مبادئها العقدية حين يعرضون لفهم آية قرآنية تدل على معتقدهم، ثم يجعلونه في مرتبة أدنى حين محاولتهم إثبات حكم فرعي، فلا توجد آية قرآنية صريحة في مؤدى ومضمون أي مبدأ عقدي خاص بالمذهب وإنما محتملة ثم يقويها صاحب المذهب بالعقل، فعقيدة عصمة الأئمة والإلهام والكشف والجبر وخلق الأفعال والسلف، لا يثبت أي منها بدليل قرآني صريح في الوقت الذي يتطلب الأمر صراحة في ذلك، لأنها أصول وقد يترتب على ذلك تكفير للمخالف، فالمكفّر يكفر الآخر لأنه لم يأخذ بفهمه هو القائم على عقله للآية القرآنية - ربما يقر بعضهم بذلك لكنهم ينقضونه بحجج باهتة، سأقتصر على الأبرز منها وهي:

الأولى قولهم العقل يدل على الأصول فإذا دل عليها لم يحكم على جزئياتها، ويضربون مثالا لذلك بشخص يرشد إلى طبيب، لكنه لا يحكم على تشخيصه للمرض وعلاجه. وهذا لا يصح، فإرشاد الشخص توجيهي وليس إلزاميا كإرشاد العقل، فالمريض يحق له تركه وعدم الاكتراث به بخلاف توجيه العقل للأصول، فهو إلزامي لو تركه الفرد فإنه معاند مكابر، فهو كتوجيه لجنة طبية إلى الطبيب، فهنا لو رفض المريض توجيه اللجنة فهو معاند، ويحق لها في نفس الوقت تقييم تشخيصه وعلاجه، فهذا هو المثال الصحيح لإرشاد العقل.

والثانية قولهم إنه نسبي، وكأن بقية الأصول الاستدلالية الأخرى قطعية، مع أن العقل أقل نسبية من نسبية تلك الأصول السابقة بما فيها الروايات التي ثبتت بعلم مصطلح الحديث العقلي النسبي.

لو أردنا أن نضرب مثلا لذلك، سنجد أن حد القتل للزاني المحصن عن طريق الرجم أو بأي وسيلة أخرى معارض للعقل، فالعقل هنا يقتضي بطلان هذا الحكم لأن هناك جرائم أشد منه ولا يعاقب صاحبها بالقتل، فكيف به هو كاللواط والحرابة في بعض صورها، فأقل صور الحرابة أشد من الزنا، وأحكام العقوبات في الإسلام متناسقة ومنطقية، فهنا إن قدمنا الروايات التي ثبتت بالعقل هي أيضا - فمصطلح الحديث علم عقلي - فقد خالفنا عقلا أكبر منها، وهو ضرورة اطراد الجريمة مع العقوبة وعدم ذلك يؤدي للتناقض، وإن قدمنا الإجماع - إن وجد في هذه المسألة - فقد قدمنا حكمه العقلي على دليل الاطراد السابق الأقوى منه، ودليله العقلي هو أن الكثرة أكثر صوابا من القلة.. إذاً هي عقول تتضارب فيما بينها. وكذلك تولية الرجل للإمامة العظمى مع وجود امرأة أقدر منه، أو جعله وليا في النكاح مع وجود امرأة أرشد منه.. فكل هذه مخالفة صريحة للعقل بسبب أدلة وروايات أقل منه.