عقيم وغير عقيم كان النقاش الطويل العريض في مسألة الفن للفن والفن للحياة.. وصار العالَمُ معسكَرَيْنِ، وساد تعصبٌ، واشتد خصام، وتعالى اتهام والمسألة مجدية وغير مجدية.. وقد مضى زمانها وانقضى على أيّة حال. والسعيد من كان ميزانه عدلًا، ورأيُهُ عدلًا، وموقفه عدلًا.. دون رخص في العرض أو رخص في المنطق، ورخص في الذوق وفي يوم ما من أعوام الستين من هذا القرن تقوم الدنيا في أوروبا وتقعد، وربما كانت باريس مركزًا أساسيًا للقيام والقعود، وتبع باريس ومثل باريس لندن وواشنطن، وعواصم أخرى في الغرب.. ثم في الشرق على علم وغير علم، وغير العلم أكثر من العلم.. والغرب أدهى من الشرق!!
وماذا جرى، وماذا جَدَّ؟ أصواتٌ ترتفع بالجديد، وتهاجم البحث (الأكاديمي) السائد، ويتحدثون عن الجديد بصوت مرتفع، فقّد خلا الجو.. فلم يعد في باريس (اندريه جيد) أو (مورياك) أو (موروا)، ولا أساطين (السوربون). ولا بد من ثورة، ومن تميز ومن اصطياد في الماء الْعَكِرِ، فهذا ينادي برواية جديدة ليست رواية، وذاك ينادي بطلاب جدد وكأنهم أساتذة، وذلك يطالب بسوربون جديد ليست سوربونًا؟...
ماذا؟ إنها (البنيوية). وترتفع أسماء تتصدر وتقود، ولم يسأل أحد أين كانت؟ ولمَ اختَفَتْ كلَّ هذه المدة وهي موجودة حية ينتهي أكثرها بـ(الأوف) و(الاسكي)...
ولم يسأل أحد عن التأريخ القريب، فأين كانت هذه الأسماء؟ وما خطبها؟ لَم هَاجَرَتْ أو هجِرَت من موسكو ولنينكراد وبراغ..؟ لقد رأت فنًا للحياة يعلو، ويسود من وراء الفن للحياة طبعًا - ثورة اجتماعية ورد الحقوق لطبقة ظلمها الزمن، وفن يريد أن يعرف عن هذه الطبقة وينتقم لها وينصفها...
وصحيح أنَّ مثلَ هذه الدعوة في عنفها وحِدَّتها يصطحب بوهن هنا وضعف هناك... وصحيح كذلك وجوب درسها وإعلان نقصها، ولكن هذا الصحيح شيءٌ وما جرى شيءُ آخر غير صحيح، وهو أن تجرد الدعوة من فضائلها كلا وبغير استثناء، وتضع في قمة الفضيلة نقصًا هو عظيم كلا وبغير استثناء. وماذا؟ الشكلانية المطلقة! لا علاقة لكاتب بمجتمع أو فكر، ولا اهتمام لناقد بظرف وعوامل خاصة، إنه لا يعرف إلا هذه الكلمات إزاءه وهي مجموعة من الحروف جملًا وسطورًا وفِقَرًا.. وهي همه الأول والأخير، بل إنَّ الفكر عيب، والأخلاق عار، والنضال نقيصة.. ويجد الشكلانيون سندًا قبل الثورة من القيصر وأعوانه، ويجدون السند بعد الثورة من أعداء الشعب والحاقدين عليه.. ويمضون في دعوتهم، ويُكَوِّنُون مدرسة لها تلاميذها - ولسنا بصدد ظلمهم بالاتهام حينا وبالخطأ حينًا، ولكنهم من الغلو بما يبعث على الريبة أو على المؤاخذة البريئة في أقل تقدير.. أو على الترفع من الوقوع في الغلو المطلق.
ويتشتتون -مع الأسف- في الأقطار.. ويبقون حينا دون حراك، ثم يخلو الجوُّ فإذا القائمة تقوم، ماذا؟ الجديد وما الجديد؟ (البنيوية)! وكأنّ (البنيوية) لم تكن من قبل؟ بوجهها أو بوجوه أخرى. إن هذا الذي تقولونه من مباديّ البنيوية في الوقفة عند النص وفي تحليل النص والاستمتاع بالنص معروف، صحيح، لا خلاف فيه، فما الجديد؟ التطرف المطلق، الدعوة الحارة جدا لسيادتها مبدأ وحيدًا وفريدًا من أقصى باريس إلى أقصى واشنطن مرورًا بمغربنا العربي.
لا.. لا يا إخوان هذا غير صحيح وغير معقول.. وعلى أن يكون في المسألة سرُّ أَبْعَدَ من متناولنا.. صحيح أنكم تتلقفونه حبًا بالجديد إذ لم يكن لكم قديم، وطمعًا بالشهرة إذْ ليس لكم شهرة.. ولكن الضجة غير معقولة، وقد تكون مفتعلة، ولم لا تكون مفتعلة؟ أنا لا أسمح لنفسي لتبالغ بالسوء في إنسانيتكم جميعًا، أو بسوء الظن في وطنيتكم كلكم، فما زلْتُ أعدِّدُ المجالات وأعَدِّدُ الأسباب أن يكون وراء الأكَمَةِ ما وراءها. ولا أريد أن أقول: إن حركة استعمارية كقولي يوم كان الإنكليز في الهند، والفرنسيون في الجزائر، والأمريكان في فيتنام..
لا ليست المسألة بهذا الشكل وإن كان لها قرب من الجوهر، ولا أقول: إن مخابرات معينة من دولة معينة عملت وجدت ونظمت وبذلت لتقوم القائمة وتستيقظ النائمة.. لا أقول حتى ولو قلتُ ذلك. مع نفي ولعدد محدود من الأصدقاء والطلاب، مذ وقت مبكر.. لا أقوله ولكني رأيت المسألة غير طبيعية، ولأني أبُّرى كثيرين من أنصارها عن العمالة.
ولكن الذي أقوله وألتزم به ولا أحيد عنه أن صحيح الحركة من الوقفة طويلًا عند النص موجود قبلها وبعدها، وفي الغرب ولدى العرب، وفي فرنسا قبل (البنيوية) خصوصًا، وفي غير فرنسا فيها عرف بالنقد الجديد، وهذا هو النقد العربي القديم انظر إليه، أخي الكريم، تَرَاهُ -في حدود عصره- بنيويًا من حيث هو وقفة عند النص، عند اللغة، عند المفردة، اقرأ أي كتاب من أقدم هذه الكتب حتى آخرها، وليس صحيحًا الإصرار على كتاب واحد هو (دلائل الإعجاز) للجرجاني -ويعجبني أن أذكر- هنا تفسير (الكشاف) للزمخشري إن دواعي (التفسير) تقتضي أن يكون بنيويًا بمعنى من المعاني.
المهم.. أن صحيح الحركة من الوقفة عند النص صحيح، ومشتقات منها مَرَّتْ ذات يوم في مدرسة براغ ومدرسة موسكو ولنينكراد (نحو ونقد وشكلانية) بأدق الأسماء.. ولكن ما الذي عدا مما بدا؟ ثم لا بأس بإضافة جديدة في مَثل، أو دراسة أو رأي.. على أن يسمو ذلك عن العبث والجمود، والمثلثات واللوغاريتمات، والرموز بين الطاء والسين.. فيموت النص على يديك لموت فيك.. زيادة على افتيات فيك على الحقيقة التي ليست فيك..
المهم أن صحيح الحركة صحيح.. ويمكن أن نفيد من المناهج الأخرى من تاريخية واجتماعية ونفسية ونفسانية.. إما أن تكون بنيويا وإلا.. فذلك عيب فيك أنا في غنى عن الوقوع فيه، قد تكون سليم النية ولكنك من غير قاعدة، قد تكون مجددًا ولكنك من غير قديم، قد تكون طويلًا ولكنك قصير.
أَجَلْ، إنما الذي لا شك فيه، هو أن مجموع البنيوية - إذا أخذتها كُلا وكما آلَتْ إليه في (اللوغاريتمات) الأوربية وفي التبعية العربية فذلك الضلال البعيد، ولعلك علمت من أضرار بنيويين من درجة أولى أن شاموا المخرج من طريقهم المسدود في الإغارة على مناهج أخرى، فهم مرة عيال على فرويد ومرة ضيوف على ماركس.. ثم - والشيء بالشيء يذكر أين كان (دوسوسير) قبل اليوم؟ إنه عالم لغوي طبع له تلاميذه محاضراته بعد وفاته، ورأينا الأساتذة في الأربعينيات والخمسينيات في السوربون وغيرها يذكرونه كما يذكرون أي لغوي آخر. فللرجل جهده وهو واحد من عشرات آخرين، أما أن يستحيل بين عشية وضحاها إمامًا، وإمامًا وحيدًا أوحد، فذلك هو الضلال البعيد.
1988*
* أديب وناقد عراقي «1919-1996».
وماذا جرى، وماذا جَدَّ؟ أصواتٌ ترتفع بالجديد، وتهاجم البحث (الأكاديمي) السائد، ويتحدثون عن الجديد بصوت مرتفع، فقّد خلا الجو.. فلم يعد في باريس (اندريه جيد) أو (مورياك) أو (موروا)، ولا أساطين (السوربون). ولا بد من ثورة، ومن تميز ومن اصطياد في الماء الْعَكِرِ، فهذا ينادي برواية جديدة ليست رواية، وذاك ينادي بطلاب جدد وكأنهم أساتذة، وذلك يطالب بسوربون جديد ليست سوربونًا؟...
ماذا؟ إنها (البنيوية). وترتفع أسماء تتصدر وتقود، ولم يسأل أحد أين كانت؟ ولمَ اختَفَتْ كلَّ هذه المدة وهي موجودة حية ينتهي أكثرها بـ(الأوف) و(الاسكي)...
ولم يسأل أحد عن التأريخ القريب، فأين كانت هذه الأسماء؟ وما خطبها؟ لَم هَاجَرَتْ أو هجِرَت من موسكو ولنينكراد وبراغ..؟ لقد رأت فنًا للحياة يعلو، ويسود من وراء الفن للحياة طبعًا - ثورة اجتماعية ورد الحقوق لطبقة ظلمها الزمن، وفن يريد أن يعرف عن هذه الطبقة وينتقم لها وينصفها...
وصحيح أنَّ مثلَ هذه الدعوة في عنفها وحِدَّتها يصطحب بوهن هنا وضعف هناك... وصحيح كذلك وجوب درسها وإعلان نقصها، ولكن هذا الصحيح شيءٌ وما جرى شيءُ آخر غير صحيح، وهو أن تجرد الدعوة من فضائلها كلا وبغير استثناء، وتضع في قمة الفضيلة نقصًا هو عظيم كلا وبغير استثناء. وماذا؟ الشكلانية المطلقة! لا علاقة لكاتب بمجتمع أو فكر، ولا اهتمام لناقد بظرف وعوامل خاصة، إنه لا يعرف إلا هذه الكلمات إزاءه وهي مجموعة من الحروف جملًا وسطورًا وفِقَرًا.. وهي همه الأول والأخير، بل إنَّ الفكر عيب، والأخلاق عار، والنضال نقيصة.. ويجد الشكلانيون سندًا قبل الثورة من القيصر وأعوانه، ويجدون السند بعد الثورة من أعداء الشعب والحاقدين عليه.. ويمضون في دعوتهم، ويُكَوِّنُون مدرسة لها تلاميذها - ولسنا بصدد ظلمهم بالاتهام حينا وبالخطأ حينًا، ولكنهم من الغلو بما يبعث على الريبة أو على المؤاخذة البريئة في أقل تقدير.. أو على الترفع من الوقوع في الغلو المطلق.
ويتشتتون -مع الأسف- في الأقطار.. ويبقون حينا دون حراك، ثم يخلو الجوُّ فإذا القائمة تقوم، ماذا؟ الجديد وما الجديد؟ (البنيوية)! وكأنّ (البنيوية) لم تكن من قبل؟ بوجهها أو بوجوه أخرى. إن هذا الذي تقولونه من مباديّ البنيوية في الوقفة عند النص وفي تحليل النص والاستمتاع بالنص معروف، صحيح، لا خلاف فيه، فما الجديد؟ التطرف المطلق، الدعوة الحارة جدا لسيادتها مبدأ وحيدًا وفريدًا من أقصى باريس إلى أقصى واشنطن مرورًا بمغربنا العربي.
لا.. لا يا إخوان هذا غير صحيح وغير معقول.. وعلى أن يكون في المسألة سرُّ أَبْعَدَ من متناولنا.. صحيح أنكم تتلقفونه حبًا بالجديد إذ لم يكن لكم قديم، وطمعًا بالشهرة إذْ ليس لكم شهرة.. ولكن الضجة غير معقولة، وقد تكون مفتعلة، ولم لا تكون مفتعلة؟ أنا لا أسمح لنفسي لتبالغ بالسوء في إنسانيتكم جميعًا، أو بسوء الظن في وطنيتكم كلكم، فما زلْتُ أعدِّدُ المجالات وأعَدِّدُ الأسباب أن يكون وراء الأكَمَةِ ما وراءها. ولا أريد أن أقول: إن حركة استعمارية كقولي يوم كان الإنكليز في الهند، والفرنسيون في الجزائر، والأمريكان في فيتنام..
لا ليست المسألة بهذا الشكل وإن كان لها قرب من الجوهر، ولا أقول: إن مخابرات معينة من دولة معينة عملت وجدت ونظمت وبذلت لتقوم القائمة وتستيقظ النائمة.. لا أقول حتى ولو قلتُ ذلك. مع نفي ولعدد محدود من الأصدقاء والطلاب، مذ وقت مبكر.. لا أقوله ولكني رأيت المسألة غير طبيعية، ولأني أبُّرى كثيرين من أنصارها عن العمالة.
ولكن الذي أقوله وألتزم به ولا أحيد عنه أن صحيح الحركة من الوقفة طويلًا عند النص موجود قبلها وبعدها، وفي الغرب ولدى العرب، وفي فرنسا قبل (البنيوية) خصوصًا، وفي غير فرنسا فيها عرف بالنقد الجديد، وهذا هو النقد العربي القديم انظر إليه، أخي الكريم، تَرَاهُ -في حدود عصره- بنيويًا من حيث هو وقفة عند النص، عند اللغة، عند المفردة، اقرأ أي كتاب من أقدم هذه الكتب حتى آخرها، وليس صحيحًا الإصرار على كتاب واحد هو (دلائل الإعجاز) للجرجاني -ويعجبني أن أذكر- هنا تفسير (الكشاف) للزمخشري إن دواعي (التفسير) تقتضي أن يكون بنيويًا بمعنى من المعاني.
المهم.. أن صحيح الحركة من الوقفة عند النص صحيح، ومشتقات منها مَرَّتْ ذات يوم في مدرسة براغ ومدرسة موسكو ولنينكراد (نحو ونقد وشكلانية) بأدق الأسماء.. ولكن ما الذي عدا مما بدا؟ ثم لا بأس بإضافة جديدة في مَثل، أو دراسة أو رأي.. على أن يسمو ذلك عن العبث والجمود، والمثلثات واللوغاريتمات، والرموز بين الطاء والسين.. فيموت النص على يديك لموت فيك.. زيادة على افتيات فيك على الحقيقة التي ليست فيك..
المهم أن صحيح الحركة صحيح.. ويمكن أن نفيد من المناهج الأخرى من تاريخية واجتماعية ونفسية ونفسانية.. إما أن تكون بنيويا وإلا.. فذلك عيب فيك أنا في غنى عن الوقوع فيه، قد تكون سليم النية ولكنك من غير قاعدة، قد تكون مجددًا ولكنك من غير قديم، قد تكون طويلًا ولكنك قصير.
أَجَلْ، إنما الذي لا شك فيه، هو أن مجموع البنيوية - إذا أخذتها كُلا وكما آلَتْ إليه في (اللوغاريتمات) الأوربية وفي التبعية العربية فذلك الضلال البعيد، ولعلك علمت من أضرار بنيويين من درجة أولى أن شاموا المخرج من طريقهم المسدود في الإغارة على مناهج أخرى، فهم مرة عيال على فرويد ومرة ضيوف على ماركس.. ثم - والشيء بالشيء يذكر أين كان (دوسوسير) قبل اليوم؟ إنه عالم لغوي طبع له تلاميذه محاضراته بعد وفاته، ورأينا الأساتذة في الأربعينيات والخمسينيات في السوربون وغيرها يذكرونه كما يذكرون أي لغوي آخر. فللرجل جهده وهو واحد من عشرات آخرين، أما أن يستحيل بين عشية وضحاها إمامًا، وإمامًا وحيدًا أوحد، فذلك هو الضلال البعيد.
1988*
* أديب وناقد عراقي «1919-1996».