فاطمة المزيني

«النهار متعب وفائض عن الحاجة، الليل وثاب ومتحفز وجديد» «أما عشبة فلا هي أم، ولا هي أخت، لم تصبح زوجة ولم تجد خاطباً». «المزهاف» رواية (تاريخية) صدرت هذا العام عن دار تشكيل للروائي السعودي خليف الغالب.

عندما قرأت الرواية وجدت أنني أمام حبكة تتكئ على التحليل النفسي بشكل عبقري. مما جعلني أقف في كل أحداثها على الاشتغالات النفسية التي اعتمدها الكاتب في رسم الشخصيات وتخليق المعاني، وأزعم أن هذه هي الطريقة الأفضل للتجوال بين طبقات السرد.

في «المزهاف» لا تبرز الصحراء بحضورها التقليدي الذي يتمحور حول طرق العيش واحتمالات البقاء، بل بوصفها حاضنة إنسانية يتحرك خلالها سير الأحداث فتؤثر في مآلات الشخصيات وتولد تساؤلاتها.

تذهب الرواية بعيدا في سبر أغوار الأبعاد النفسية لشخصياتها، وتعالج أثر الدوافع في تشكيل السلوك والخيارات والعلاقات والنظرة للعالم الخارجي.

العزلة، وما أدراك ما تصنعه العزلة في الذوات وما تحدثه من مخاوف. كان هذا موضوعاً افتتاحياً في الرواية التي بدأت بسرد التفاصيل اليومية لعائلة بدوية صغيرة اختارت العزلة على خلاف ما اعتاد عليه أهل الصحراء الذين يعتبرون العزلة الكبيرة التي فرضتها عليهم الصحراء مهدداً لحياتهم، فتجدهم أكثر الناس حرصاً على تكاتف المجتمع ووحدة القبيلة. ما يعقد البناء السيكولوجي للأسرة التي عاشت عزلة مركبة.

تظهر هذه الآثار في مرحلة لاحقة من الرواية حين تقرر الأسرة قطع عزلتها. نرى البطل «زبن» في صراع مستمر للتحرر، وإثبات استحقاقه للتقدير، ثم شقيقته «عشبة» تحاول استكشاف روحها وجسدها لأول مرة وكأنها عالقة في مرحلة نفسية طفولية، إذ لم تمنحها الظروف فرصة الانتقال الإنساني الطبيعي. ثم الأم البسيطة التي تصطدم بمشقة التعامل المباشر مع تفاصيل اجتماعية لا تفهمها، وكذلك الأب الذي يعود لمعاركه القديمة التي اختار الهروب منها منذ زمن.

في مشهد آخر يقدم الكاتب ما يشبه تمشيطا سرديا إبداعيا لثنائية الحب والخوف.

الحب، تلك المنطقة الملغومة دائماً وأبداً في أعماق النفس البشرية، يتجسد تارة في صورة حلم وردي ومستقبل وافر، وتارة أخرى مظلما مسكونا بالإثم والموت والانتقام. أما الخوف، فيبدو وحشاً يتغذى على حمولات الخيال والأسطورة والرؤى الجمعية اللا معقولة.

الكبت، واحد من مسارات الرواية، وإن كان لدى القارئ تصور مبدئي عن تأثير قد يحده الإدراك لمسألة الكبت، فالحالة مختلفة في «المزهاف» إذ تتطور الشخصيات طوال السرد، داخل حالة كبت شاملة لا مدركة ليس لرغباتها الطبيعية فحسب، بل هو كبت يجعل الحياة بأسرها مشروعاً مؤجلاً ومعطلاً.

الرموز والأحلام، كانت أشبه بحيلة لا واعية للتماهي مع كل ما لا يتهيأ فهمه وتأطيره في الواقع المتوتر لشخصيات تحاول رسم مصائرها والوصول لحالة خلاص تنعتق بها من الماضي.

الموت و الحياة، الهاجس الكلاسيكي للوجود بدأت به الرواية وانتهت، فكان أساس معمارها النفسي وتشكيلها السردي والمحرك الأساس لتقاطعاتها وتمثلاتها.

في «المزهاف».. تعمد الغالب بلا مواربة انتخاب مقطع تصويري دقيق لملامح حياة لا تتحقق ولا تنصرف، وفق رؤية سردية قابلة لتكرار القراءات، وتعدد المقاربات النقدية.