محمد السعد

في مناظرة شيقة جرت بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى اليهودي في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات في الليلة الثامنة من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي. كان متى اليهودي منحازاً للفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي وينافح في سبيل الإعلاء من مكانة أرسطو ومنطقه. وكان رد أبي سعيد السيرافي لافتاً للانتباه حين يقول، «فإذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحها عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم، وما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟».

لا يتسع المجال لكتابة بقية المناظرة المثيرة ولكن يمكن أن ندرك جملة من الملاحظات، ولعل أهمها معرفة المثقفين العرب كالسيرافي بالتراث اليوناني وثقافته الدينية معرفة دقيقة وعميقة، استطاعوا من خلالها تفكيك التراث اليوناني ومعرفة تفاصيله وأصوله ومنابعه التاريخية. فالاقتباس المذكور أعلاه، يعكس وجهة نظر المثقفين العرب حول الفلسفة اليونانية بأنها مجرد تراث يوناني وليست مشتركاً إنسانياً يفرض على بقية الشعوب والثقافات.

في المقابل، ما مصير التراث اليوناني اليوم وكيف أصبح التعاطي معه من قبل القراء العرب؟ لنعترف بوجود سوء فهم شامل للفلسفة بوصفها تراثا يونانيا في المجتمع العربي وتحديدا في الأوساط الأدبية والفكرية والأكاديمية. العقل الفلسفي لم يعد يونانيا يعبر عن ثقافة أهله ومعتقداتهم الدينية بل أصبح عقلا فريدا تحوطه المعجزات. عقل سوبرمان يظهر في حالات التجلي والدهشة واختراق الظواهر الطبيعية بالتفكير في ما وراء الحدود. العقل اليوناني ليس كالعقل الهندي أو العقل الصيني أو العقل العربي فهو عقل متفوق على كل العقول البشرية، إنه معجزة أقرب للمعجزة الإلهية. وكي تكون فيلسوفا بحق يجب أن تكون فردا ذا بصيرة وقدرة على طرح الأسئلة الكبرى. الفلسفة تنبعث في لحظات أقرب للوحي ومعها يستيقظ العقل وتنبعث الأسئلة ويتحرر المجتمع. بهذه الطريقة الساذجة يؤمن المثقف العربي بقدرات العقل اليوناني الخارقة للعادة.

الحديث عن الفلسفة، في الأوساط الأدبية وبين جموع القراء، أصبح مجالا للتشدق والتظاهر بمظهر «المثقف النخبوي» يكفي أن تردد مصطلحات كـ«الميتافيزيقيا أو الفينومينولوجيا أو الإبستمولوجي أو الأنطولوجي» مع ربطها بأسماء أوروبية شهيرة مثل «هيجل وكانط وهيوم وهيدجر» وهي أسماء رنانة يشعر المثقف العربي حين يرددها ويستشهد بأفكارها أنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه. اذهب إلى أحد الأندية الأدبية واحضر محاضرة عن الفلسفة، ستجد الشك الديكارتي حاضرا على الدوام والدياليكتيك الهيجلي تلهج به الألسن، ونحن في الحقيقة لا ندري ما حقيقته. ندخل معه في حالة من الهذيان وتتداخل المصطلحات مع الأسماء وندخل بحر الميتافيزيقا والعقل المحض عند كانط ثم نربطها بالأنطولوجي عند هيدجر ثم بالكوجيتو عند ديكارت مع شيء من البهارات الهيجلية والديالكتيك الماركسية ويوظفها المحاضر في حاجة المجتمع نحو استئناف الفينومنولوجيا والقطيعة الابستمولوجية مع التراث، ثم يدخل المحاضر في حالة من الانتفاش المعرفي عندما تنقطع بينه وبين الحضور كل خيوط التواصل وشعر بأنه الأكثر ذكاءً في القاعة وهو يردد مصطلحات الكوجيتو وعلاقته بسوق الأسهم وكيف يؤثر هذا في الشكلانية الروسية والانطولوجية الفرنسية والمثالية الألمانية التي قادت المجتمع البشري نحو العدمية النيتشوية، وأصبح الزمكان داخلا في حيز الديالكتيك الهيجلي، ما أدى لتحرر الروح المطلق والأنا التحتية مع الذات الوجودية العلوية، وتتواصل مع العقل الكلي ويصبح المجتمع بعد هذه الخلطة السرية عبثيا كما يقول سارتر. والحضور في حالة من الذهول من كثرة المصطلحات والألفاظ المتداخلة التي لا ترابط بينها، والمحاضر يتعمد التمويه بالألفاظ الغرائبية ليصنع حاجزاً طبقياً بينه وبين الحضور. ولسان حال الحضور المغلوب على أمره يقول وهم يسمعون هذا الكلام الكبير: «الواد دا بيقول كلام زي الفل».

الفلسفة سهلة ولكن نحن نصعبها. يستطيع أي قارئ للفلسفة أن يخلط بعض المصطلحات ببعض و»يصنع من الفسيخ شربات» معرفية كي ينضم لجموع المثقفين القابعين في الأبراج العاجية بكل سهولة. ولا بأس بعد ذلك أن نقدم هذه الخلطة الثقافية للأطفال الصغار على هيئة مكرونة بالبشاميل أو شكولاتة بالحليب، لنكسبهم معجزة التفكير الناقد ويصبحوا بارعين في مزج الديالكتيك مع الأنطولوجي ليتمكنوا من استئناف الفينومنولوجيا بكل يسر وسهولة.