حتى التصوير صار له يوم عالم يحتفى به، وهو اليوم التاسع عشر من أغسطس في كل عام. احتفاء يذكرنا بأن العالم بعد الصورة ليس كما قبله، وأن هذا الاختراع وهبنا النظر كما وهبنا جمع الذكريات وتخزينها، منذ أول كاميرا حملت بشارة الكيمياء في تثبت الصور، إلى حزمة البكسلات التي ثبتت الدهشة الرقمية وجعلت من التصوير سلوكًا اجتماعيًا، وتقليدًا يوميًا لكل شعوب الأرض.
ولأنها اتصلت تاريخيًا بفعل التوثيق، كان مسارها التقني يذهب باتجاه توسيع هذه المهمة، إلى الحد الذي بات فيه الناس مشغولون عن واقعهم بتوثيقه بصريًا. يتكيفون مع الصورة وبها، حتى لكأن الوجود برمته بات لحظة مهندسة لتصبح لقطة ضمن شريط لا منتهٍ من ذكريات الناس المرصودة عن سابق إصرار وترصد بعدسات الكاميرات.
انتهى العالم برمته إلى سيل من الصور التي تحتضن الطفولة بمثل ما تنادم يوميات الكهولة. بات الإنسان يلتقي بذاكرته كل يوم، لأن كل صورة تصبح ذاكرة مباشرة بعد التقاطها، ويصبح الفرد منا جزءًا من ذاكرة سيالة بلا توقف عبر منصات التواصل التي شقت قميص الناس وكشفت كل خصوصياتهم، إلى أن صار متعذرًا الفصل بين الخاص والعام في عالم الصورة.
وتحت عنوان التواصل، أخذنا الهوس إلى ملء شاشات الأصدقاء بالصور، من أول الصباح حتى منتصف الليل. وكمن يخاف القطيعة، وأشكال الغياب، يؤثث الناس حوائطهم الافتراضية بصور عن ركضهم اليومي، عن أنفاسهم التي لا تكف عن شهوة التصوير والتدوين، باتت دقات الصورة من دقات القلب، لا نستطيع إيقافها، خشية أن يتوقف الشعور بالحياة.
لا توجد وصايا يمكن سردها على الناس في هكذا يوم، إلا التنبه على أن الحياة على حافة الصورة لا تشبه الحياة على أرض الواقع. في صندوق الصورة لا تختبئ المشاعر بمثل ما تختبئ في ذاكرة المعايشة الحية التي نلامس فيها وجودنا بكامل أحساسينا. لا تمثل الصورة دائمًا مددًا روحيا للذاكرة، إذا ما انشغلنا بتحويلها إلى ظلال كثيفة ليومياتنا، الصورة ميتة ونحن من يعيد محاول ابتكار حياة جديدة لها في كل مرة نحدق فيها. لذلك ليست هي الواقع بالتمام، بل هي ما بقي بعد جفاف التجربة، بعد البلل القصير الذي تسلل إلى شقوق الذاكرة.
ستنشغل شركات الهواتف النقالة، ومعها شركات تصنيع الكاميرات بتحريض الناس على التصوير، وعلى ضخ المزيد من المتعة في استخداماتها، ولن تضع في دليل استخدامها ما ينبغي أن تصور أو لا تصور، والكم المقبول من الصور للهرب من إدمان التصوير، وكآبة الوقوف بانتظار ضغطات المعجبين، ساعة لا تأتي ولا تصل.. تلك مهمة متروكة لقرار الناس، حين يدركون بأن وقتهم أصبح مقسومًا ما بين التقاط صورة رقمية، ومشاهدة أخرى، طواف يومي حول الصور، طواف محمول على الخواف من الفوات، فوات شيء ما، في ركام الصور الذي لا يتوقف.
على جسر الصورة اليوم يقف الناس جميعا ليطل بعضهم على بعض، إطلالة خالية من الشوق غالبًا، لأن الشوق قرين الفقد والغياب، من يغيب تهبه الذاكرة صورة مكبرة بألوان الشوق، وتهبه المشاعر رغبة في الوصل والاتصال، بينما الحاضرون بصورهم دائمًا يتزاحمون على شرفاتنا، لا نودعهم حتى نراهم، يمطروننا بصورهم، وتصوير أحوالهم، لكننا لا نقبض على الكثير من ذكرياتهم، لأنها سرعان ما تطمر تحت الصور التي نعانقها ببرود، ونقلبها بالعين دون القلب.
ولأنها اتصلت تاريخيًا بفعل التوثيق، كان مسارها التقني يذهب باتجاه توسيع هذه المهمة، إلى الحد الذي بات فيه الناس مشغولون عن واقعهم بتوثيقه بصريًا. يتكيفون مع الصورة وبها، حتى لكأن الوجود برمته بات لحظة مهندسة لتصبح لقطة ضمن شريط لا منتهٍ من ذكريات الناس المرصودة عن سابق إصرار وترصد بعدسات الكاميرات.
انتهى العالم برمته إلى سيل من الصور التي تحتضن الطفولة بمثل ما تنادم يوميات الكهولة. بات الإنسان يلتقي بذاكرته كل يوم، لأن كل صورة تصبح ذاكرة مباشرة بعد التقاطها، ويصبح الفرد منا جزءًا من ذاكرة سيالة بلا توقف عبر منصات التواصل التي شقت قميص الناس وكشفت كل خصوصياتهم، إلى أن صار متعذرًا الفصل بين الخاص والعام في عالم الصورة.
وتحت عنوان التواصل، أخذنا الهوس إلى ملء شاشات الأصدقاء بالصور، من أول الصباح حتى منتصف الليل. وكمن يخاف القطيعة، وأشكال الغياب، يؤثث الناس حوائطهم الافتراضية بصور عن ركضهم اليومي، عن أنفاسهم التي لا تكف عن شهوة التصوير والتدوين، باتت دقات الصورة من دقات القلب، لا نستطيع إيقافها، خشية أن يتوقف الشعور بالحياة.
لا توجد وصايا يمكن سردها على الناس في هكذا يوم، إلا التنبه على أن الحياة على حافة الصورة لا تشبه الحياة على أرض الواقع. في صندوق الصورة لا تختبئ المشاعر بمثل ما تختبئ في ذاكرة المعايشة الحية التي نلامس فيها وجودنا بكامل أحساسينا. لا تمثل الصورة دائمًا مددًا روحيا للذاكرة، إذا ما انشغلنا بتحويلها إلى ظلال كثيفة ليومياتنا، الصورة ميتة ونحن من يعيد محاول ابتكار حياة جديدة لها في كل مرة نحدق فيها. لذلك ليست هي الواقع بالتمام، بل هي ما بقي بعد جفاف التجربة، بعد البلل القصير الذي تسلل إلى شقوق الذاكرة.
ستنشغل شركات الهواتف النقالة، ومعها شركات تصنيع الكاميرات بتحريض الناس على التصوير، وعلى ضخ المزيد من المتعة في استخداماتها، ولن تضع في دليل استخدامها ما ينبغي أن تصور أو لا تصور، والكم المقبول من الصور للهرب من إدمان التصوير، وكآبة الوقوف بانتظار ضغطات المعجبين، ساعة لا تأتي ولا تصل.. تلك مهمة متروكة لقرار الناس، حين يدركون بأن وقتهم أصبح مقسومًا ما بين التقاط صورة رقمية، ومشاهدة أخرى، طواف يومي حول الصور، طواف محمول على الخواف من الفوات، فوات شيء ما، في ركام الصور الذي لا يتوقف.
على جسر الصورة اليوم يقف الناس جميعا ليطل بعضهم على بعض، إطلالة خالية من الشوق غالبًا، لأن الشوق قرين الفقد والغياب، من يغيب تهبه الذاكرة صورة مكبرة بألوان الشوق، وتهبه المشاعر رغبة في الوصل والاتصال، بينما الحاضرون بصورهم دائمًا يتزاحمون على شرفاتنا، لا نودعهم حتى نراهم، يمطروننا بصورهم، وتصوير أحوالهم، لكننا لا نقبض على الكثير من ذكرياتهم، لأنها سرعان ما تطمر تحت الصور التي نعانقها ببرود، ونقلبها بالعين دون القلب.