أنس الرشيد

المزدوج هو ما يقول لنا إنَّ الشيء صار اثنين، وهذه المقالة تقول بأغنية سعودية صنعتها الشخصية المزدوجة لإنسان الجزيرة العربية، وتمثلتها القوالب والمضامين التي تشكلت في مشروع محمد عبده، سواء تلك التي غنَّاها أو ما خرج على منوالها، وكان إطارها اجتماعيا وطنيا نفسيا دينيا، مُتسقًا مع الواقع الطبيعي للجزيرة بتنوعه. ويأتي تأثير الإنسان المزدوج على أغنيته من الازدواجية اللغوية؛ فثمة مستوى أعلى فيه المعنى المتعدد، ومستوى أدنى فيه الأصوات المجردة المحدودة التي لا معنى لها؛ فيُمكن تركيب آلاف الكلمات ذات المعنى من أصواتٍ محدودة كثلاثين صوتا أو أربعين.

ولمقاربة الازدواجية في الإنسان وموسيقاه يحضر التاريخ الاضطهادي للعبيد الأفارقة في أمريكا ليربطنا بموسيقى البلوز والأذان الإسلامي في آنٍ واحد، فالباحثة سيلفيان ديوف جَرّبت تشغيل الصوتين -الأذان والبلوز- في آنٍ واحد أمام مستمعين، فأيَّدوا هذا التشابه بينهما. فهل يمكن القبض على فكرة واحدة جزيرية تفيض منها الأصوات المتعددة؟ وإذا كان الغناء والأذان يتناقضان في الجزيرة لكنهما في العمق أصلهما واحد، فإنَّ وجود هذا الأصل يأتي من لغة الإنسان المزدوج وأفقه الوجودي والطبيعة المكانية، وما كان محمد عبده بمشروعه إلا فنانا مزدوجا يُعبر عن التناقضات ذات الأصل الواحد؛ لهذا قد يُلهَم أجوبة فيها غرائبيات، منها لمَّا سُئِلَ عن أذانِه في فترة العزلة؛ قال: «أنا مؤذن في الأصل»، وإجابته هذه ليست في حدود السؤال الذي كان السائل يرجوه منه في عز مرحلة الصحوة، لهذا قد تكون إجابته تشير إلى أن المعنى المراد إنتاجه في الجزيرة العربية متوحد في صرخة صوتية واحدة مدفونة في تاريخ المكان. هذه الصرخة هي تاريخ الألم. وبما أن التشابهات تجر بعضها؛ فلا يمكن نسيان علاقة صباح فخري بالأذان، تلك العلاقة التي أوحت له -في لحظةٍ ما- أن يجعله جزءًا من مقطوعة بدأها بـــ «قل للمليحة في الخمار الأسود».

وضع مؤرخون أسبابًا لتشابه البلوز والأذان، منها أن العبيد استجلبوا إلى أمريكا من غرب أفريقيا -وثلاثون بالمئة منهم مسلمون- ولما اضطهدوا كانت صرخاتهم تعبر عما انكبت في دواخلهم من أصوات ماضية؛ لتخرج موسيقى البلوز نتاجًا متطورًا للألم. وتاريخ الأذان الإسلامي متعلق بآلام الجزيرة تعلق المولود بأمه، الآلام التي شاركت في صناعة البلوز، وهنا يكون التاريخ الفردي الجماعي الذي تمثل في القوالب الموسيقية لمشروع عبده، هو حالة مزدوجة تصرخ بالأذان والغناء في آن واحد، وكأنّ المعاني الغنائية المتعددة في الجزيرة تأتي من صوت يعبر عما انكبت في داخل النفس الجماعية، ولم يكن الأذان عند العرب إلا إعلامًا، ولم تكن المواويل الجزيرية بأنواعها إلا آهات متصاعدة من جذور تاريخ مختف في بواطن الأرض، وهذا ما شُرِحت به (نوتة) البلوز، التي قيل عنها إنها تعني نغمة لأكثر من (نوتة) فبدل الصوت الواحد للتأوّه، تطلق الأصوات المتوالية. ويعضد هذا ما بدأه محمد عبده -في فترة عزلته- بتلحين قصيدة الطين، وهي التي تعبر عن غطرسة الإنسان الحقير؛ فكأن عبده وجد في الطين صرخة تعينه على ما تكبدته النفس المنطوية: «ما أنا فحمة ولا أنت فرقد». ولحن الطين وآهاته المكبوتة، يمكن أن يدرس في ضوء موسيقى البلوز الجزيرية! وذلك باستحضار نظرية الإحسان التي تجمع تاريخ الجزيرة الموسيقي والاجتماعي والتشريعي في أفقٍ واحد؛ ومن ثمَّ كان الخلاف المتعدد في الجزيرة العربية يوحّده صوت واحد، وهو ما فهمه مبكرا الملك عبد العزيز، وسار في ضوئه.

ويمكن أن نجد علاقة بين أذان البلوز وآلام موسيقى الفلامنكو المدفونة في زوايا إسبانية، إذ تروي أديبة روميرو-الموريسكية-عن والدها المسيحي، أنه رفض أن يُسلِمَ حتى سَمِعَ تلاوة لعبد الباسط عبدالصمد، فدخل في موجة موسيقية تشبه الفلامنكو، إنها لحظة شعور باللباس الصوفي، الذي كان يرتديه من زمانٍ بعيد، لكن لم يلفت انتباهه إليه إلا عبد الباسط؛ لهذا غير اسمه من أنطونيو إلى عبدالصمد. ويحضر سؤال يعيدنا إلى تعدد المعاني الجزيرية التي جاءت من الصوت العميق المدفون في تاريخها، وهو ما وجه الشبه بين عبد الباسط والفلامنكو؟ هذا السؤال لا تجيب عنه -بالقطع- إلا الذات التي تسمع صوتًا من داخل سراديب ذاكرتها الطويلة، فربما أنطونيو كان متماهيًا في حيواته المتعددة مع الفلامنكو فيسمعها في كل شيء، أما العلاقة بين الفلامنكو وتلاوة عبد الباسط -بوصفها متفرعة من المعاني التي أنتجتها الجزيرة العربية- فإن الفلامنكو نتاج البلاد الإسبانية المشكلة من هويات متعددة، منها الهوية العربية التي تظهر آهات اضطهادية مدفونة في تاريخ الموريسكيين، بلغت ببعض الدارسين أن يعقد صلة بين كلمة (أولّليه) الفلامنكية، وصرخة (الله) العربية الوجدانية، كما أن هذه البلاد الإسبانية أسست موسيقاها على مؤثرات عدة، منها آهات عبيد غرب أفريقيا -مؤسسي البلوز- فهم قد عبروا إلى أمريكا من خلال بلاد المغرب، ووضعوا أثرهم؛ وهنا يحضر سؤال حول الآهات الاضطهادية المختلفة حين تتراكم ماذا تنتج؟ قد يكون هذا مدخلا لتأمل العلائق التي تكبر بها موسيقى متراكمة. لكن هنا سنكتفي من إجابة هذا السؤال بأنه يمكن استخدام تاريخ علاقة البلوز والأذان الإسلامي؛ لتأمل علاقة عبد الباسط بالفلامنكو، ولم يكن عبد الباسط في التأثير الوجداني العربي بأقل من أم كلثوم وسلطنتها.

وفي نهاية الكتابة لدي سؤال يقلقني: هل يختصر أنطونيو بصفة تائب، كما أختُصِر محمد عبده؟!

التفاتة:

يقول غراب بن سنان: «لولا الأذن ما كان للأغنية شأن، ولولا الأغنية ما كان للأذن فائدة»، وقال في موضع آخر: «إن لفظ الأغنية هو المعادل العربي الأصيل للفظ موسيقى، وهو مزدوج إذ يعني غناء اللفظ وغناء النوتات»