عبد الرحمن الأنصاري

تمتلك الأمة الإسلامية تراثاً حضارياً كبيراً، ولا تكاد توازيها في هذا الإرث أمة من الأمم الأخرى. وقد بدأت انطلاقة الحضارة الإسلامية من الجزيرة العربية. حيث بزغ فجر الإسلام. واستندت الحضارة الإسلامية على التراث الحضاري في الجزيرة العربية التي شهدت قيام العديد من الدول والممالك العربية مثل سباً ومعين وحضرموت وقتبان وأوسان وحمير واللحيانيين والأنباط وكندة وتدمر، وقد تركت هذه الممالك العديد من الآثار المعمارية والفنية، التي تأثرت بها حياة العرب، وكان لها دور في تكوين الحضارة الإسلامية. ولعل من أهم ما يربط الإنسان بالأرض هو ما يعيش الإنسان منه وبه من مهنة أو حرفة تربطه بمجتمعه، حيث يقدم لمجتمعه خدمة تجعل وجوده ضرورة ملحة بالنسبة لقومه فيشعر عندئذ بدوره، ومن ثم يتمكن من إجادة ما يقدمه، نتيجة للتنافس الشديد بينه وبين أقرانه، في الصنعة أو المهنة. وتتعدد المهن والحرف بتطور المجتمع وتنوع حاجاته فتنشأ الحاجة المتبادلة بين الناس. وكان التبادل أولاً مقايضة نوع بنوع أو خدمة مقابل صنف أو سلوك مقابل نوع من الاحتياجات التي يتميز بها شخص عن الآخرين، فيتحقق بذلك قول الشاعر:

الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

تمثل الآثار النتاج الحضاري المادي الذي خلفته الأمم السابقة. وتنقسم إلى: آثار ثابتة، مثل المنشآت الدينية والمدنية والعسكرية وغيرها وآثار منقولة، وهي التحف المصنوعة من عدة مواد مثل الحجر والرخام والعظم والفخار والخزف والخشب والزجاج والنسيج والسجاد. أما التراث فهو الموروث الحضاري للأمة، الذي ورثته عن أسلافها، سواء أكان ذلك الموروث مادياً أو أدبياً. وارتكزت الحضارة الإسلامية في انطلاقتها على تراث حضاري مادي ورثته عن الممالك العربية التي قامت في الجزيرة العربية قبل الإسلام مثل ممالك سبأ ومعين وحضرموت وقتبان وأوسان وحمير واللحيانيين والأنباط وكندة وتدمر. فكل آثار تراث وليس كل تراث آثاراً، وبينهما عموم وخصوص والتداخل واضح بين الآثار والتراث، سواء المادي منه أو الفكري أو الروحي، وفي ضوء التعاليم الإسلامية افترق التراث عن الآثار فيما له صلة بالعقيدة، والتقيا فيما دون ذلك، أي ما يمس جوانب الحياة المختلفة، فارتبط التراث بالآثار في العمارة المدنية والفنون والكتابة واللغة والزراعة والحرف والصناعات اليدوية.

ويظهر افتراق التراث عن الآثار، فيما يتصل بالعقيدة جلياً في المعتقدات الدينية الخاصة بالحج والزكاة، فقد كان العرب قبل الإسلام يحجون إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومنذ أن أقدم عمرو بن لحي الخزاعي على نصب الأصنام حول الكعبة، فاتخذها العرب آلهة من دون الله سبحانه وتعالى، أو كما زعموا لتقربهم إلى الله زلفى فانحرفوا بذلك عن التوحيد. على الرغم من أنهم كانوا يقومون بتأدية بعض أركان الحج وشعائره مثل الطواف والإحرام والتلبية، لكنهم أدخلوا عليها إضافات وثنية، مثل قولهم في التلبية (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، وغير ذلك ومثل سنهم عادة الطواف عرايا والتصفيق والتصفير أثناء الطواف (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية). ومع مرور الزمن حفلت الكعبة المشرفة بالأصنام، مثل أساف ونائلة وهبل، وعندما جاء الإسلام، وتمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، بدأ أول ما دخل إلى المسجد الحرام بإزالة الأصنام والصور والتماثيل من حول الكعبة، وطهرها من هذا الرجس.

وبهذا فقد ابتعد التراث الديني عن الآثار لأن الأمر هنا يخص العقيدة. فلا يوجد أي ارتباط بينهما، فقد كانت التعاليم الإسلامية واضحة وصريحة في الفصل بين المعتقدات الدينية والماديات من أصنام وصور وغيرها.

2000*

* عالم آثار ومؤرخ سعودي «1935 - 2023»