يوسف إدريس

لا انس ولا جان يستطيع أن يقتل الشاعر،فالشاعر ظاهرة بيولوجية سوسيولوجية خارقة لأنه هو الذي يقتل هؤلاء جميعا. منذ أن مات نجيب سرور ويحيى الطاهر عبد الله وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل.. منذ أن مات المتنبي وأبو العلاء.. منذ أن مات الحلاج وهيمنجواي وجاليليو وتشي جيفارا وأنا أتساءل: لماذا يموت الشاعر؟

هل يموت لأن القبح يسود، والجمال يتقلص ويتقبح، هل هو ينتحر بالإرادة لأنه يئس من العالم ويئس العالم منه؟

هل يموت من فرط حبه للمغامرة وارتياد المخاطر وعشقه للخطأ والخطر والخطل.

هل يموت مهموما لأن الألم في الدنيا أكثر وأصبح يتكاثر أكثر؟

هل يموت ليقول للعالم بموته كلمة عجز عن قولها بحياته؟ هل يموت لأن السر الذي جعله ينطق شعرا ومثلا وحياة غدر به؟

أم لأن موت الشاعر حدث مثل غيره من أحداث الحياة، لا معنى له بالمرة.. عبثا يولد الشاعر، عبثا يقول الشاعر، عبثا يموت الشاعر؟!

أم أن موت الشاعر علامة كعلامات يوم الساعة، دق كوني يعلن نهاية حقبة، أو ينذر بالهبوط إلى حقبة؟

أم يموت الشاعر لأنه لم يعد يتلقى من الناس حبا، مخنوقا بالحسد والكراهية من حوله، غريب الدار في داره، عديم الأهل في أهله، بلا وطن وهو في وطنه؟

أم أن حياة الشاعر جملة محدودة الحجم والطول، منذ خلقت ينتهي منها وتنتهي منه مع آخر نفس من أنفاسه؟

لا يموت الشاعر أبدا من كثرة الخناجر، فخناجر أعداء الشاعر مبارد، تشحذ نصله، وأبدا لا تكسره، ونصله حاد وثاقب يغمد حتى يصل إلى ما بين الصلب والترائب، وأبداً لا ينثني أو يتكسر، ولا السرطان يقتل الشاعر، فالسرطان حياة مغلوطة. تقضي فقط على حياة مغلوطة، أما الحياة الحياة، الحياة الشاعرة، فلا تقضي عليها أبدا أي حياة، حتى لو كانت مغلوطة.

وحتى الموت لا يميت الشاعر.. وأنا شخصيا ولو أني لست بشاعر إلا أن أعذب قبلة نلتها في حياتي، قبلة موت نلتها وأنا ميت، إذ كنت قد مت في غرفتي المغلقة، ودخلت على زوجتي فوجدتني قد توقفت عن التنفس.

وأطرافي كلها مشلولة، وجسدي يبرد، وبدلا من أن تدب بالصوت، ومضت في رأسها فكرة قبلة الحياة، فملأت صدرها بالهواء وقبلتني ونفخت في روحي وبعد دهر بدأت أخذ أول نفس بعد رحلة الذهاب والإياب.

وحياة الشاعر تذكرة ذهاب وإياب بين الحياة والموت، يحيا ورأسه على يده، يقول الكلمة وهو مستعد أن يلاقي الموت جزاءها، وقد يذوق الموت، وقد يموت فعلا.

ولكن الموت أبدا لا يميت الشاعر.. بل الجنون نفسه، ولا الجن، ولا الفاشست، ولا السي آي أيه، و لا هتلر ولا شارون، ولا إنس ولا جان يستطيع أن يقتل الشاعر، فالشاعر قد ولد، ويوجد، وظاهرة بيولوجية سوسيولوجية خارقة لأنه هو الذي يقتل هؤلاء جميعا.

حتى الحب لا يقتل الشاعر، ذلك السابق الماحق المتوهج الشجاع الخبيث الأرعن الماجن الزاعق المتهامس المتعطش، يستقطر متشقق الفم من الظمأ، اللذة، أبدا لا يقتل الشاعر فالحب يحيي الشاعر، والحب الفاجع يحيله لمغن، والحب الفاشل يجعله فيلسوفا والعشق المجنون يحيله قيسا.

الحب، أيضا، لا يقضي على الشاعر..

اذن ماذا يقتل الشاعر؟!

1984*

* كاتب وروائي مصري«1927 - 1991»